خيال بشار بن برد
محمود الرحبي
الخيال باب أساس من أبواب الأدب. بل إن ما يميز كل نص أدبي –ضمن ما يميزه- هو مدى توفره على الخيالي. وإذا كانت نظرية الخيال تطورت عبر الأزمنة النقدية، إلا أنها لم تزايل مراوغة الحقيقة، دون القول بمواجهتها. فقد حصل مع الزمن تقارب بين الخيالي والحقيقي، بعد أن كان في ما سبق يعني المواجهة. أي أن يقف الخيالي في مواجهة اللاحقيقي، بمعنى أن الخيالي مقابل للحقيقي وبالتالي فهو مرادف للكذب، ويضطر المبدع أحيانًا للبحث عن إثبات حقيقة ما يدعيه، كما سنرى في مثالين للشاعر بشار بن برد. نجد الآن نظريات أدبية تستضيف الخيال في بيوت الواقع. لنقف على تفسيرات من قبيل أن الخيال ما هو في حقيقته إلا أحد احتمالات الواقع. كما أن الخيال لا يمكنه -لكي يستوعب- إلا قياس درجة قربه من الواقع. ويجب هنا أن نفرق بين الواقع والحقيقة. الأخيرة نسبية بينما الواقع مطلق. السندباد البحري مثلا قبل أن يجتاز عالم الخيال (والحديث هنا عن أدب الخيال الصرف) سنراه ينطلق من أسواق بغداد، ويقابل أناسا من لحم ودم ويحادثهم بلسان عربي مبين. بعد ذلك ينطلق إلى جهات غير معلومة، حيث سيعيش القارئ معه رحلة (خيالية) لا صلة لها بالواقع، يرى فيها مناطق ومخلوقات لم يكن لها أي رابط بحياته وتجاربه من قبل. فالسندباد إذن كأنه ينطلق من أرض الواقع جهة سماء الخيال. وفي السماء يصعب القبض على شيء؛ لأنها بعيدة عن جاذبية الأرض، لذلك فإن إمكانية الاحتمال مستبعدة في هذا النوع من الخيال، بينما هي متوفرة في الخيال الأدبي النصي الذي يحاكي الواقع حسب التعريف الأرسطي.
في تراثنا العربي هناك علامات عبقرية كبيرة استطاعت أن تتقن لعبة التماهي هذه بين الواقعي والخيالي، ليس فحسب في شعرهم، إنما حتى في مواقفهم. سأورد هنا فقط شاعرًا عظيمًا وهو بشار بن برد، ليس من خلال شعره الذي نبغ فيه في اللعب بأدوات البلاغة والبيان والبديع، حتى أصبح حجةً وقامةً ضمن قامات الشعر العربي الكبار، إنما سيكون الحديث عن مواقف رويت عنه. يقول الأصفهاني في أغانيه: قيل كان بشار يحشو شعره إذا أعوزته القافية والمعنى، بالأشياء التي لا حقيقة لها، فمن ذلك أنه أنشد يومًا شعرًا له، فقال فيه: غنني للقريض يا ابن قنان.
فقيل له: من ابن قنان هذا؟ لسنا نعرفه من مغني البصرة؟ فقال: وما عليكم منه! ألكم قبله دين فتطلبوه به، أو ثأر تريدون أن تدركوه، أو كفلت لكم به فإذا غاب طالبتموني بإحضاره؟ فقالوا: ليس بيننا وبينه شيء من هذا، وإنما أردنا أن نعرفه. فقال: هو رجل يغني لي ولا يخرج من بيتي. فقالوا له: إلى متى؟ قال: من يوم ولد إلى أن يموت.
نلاحظ هنا أن الحوار بين بشار بن برد ومحاوريه يقوم بداية على البحث عن القرينة الواقعية، ورغم ذلك فإن الشاعر جاراهم بالجد حتى النهاية، ولكنه ختم حواره بروح الهزل والمفارقة. والفقرة السابقة تعلي من شأن الخيال، فالشاعر ابتكر مغنيًا يغني شعره وأطلق عليه اسما، الأمر الذي استغربه المستمعون؛ لأنهم يعرفون أسماء جميع المغنين في البصرة، ولم يسمعوا من قبل عن اسم ابن قنان، وابن قنان هذا لا يوجد كحقيقة إلا في بيت الشاعر، وهذا البيت (في حقيقة أخرى) ليس إلا مخيلته الشاسعة.
كثيرة هي مواقف بشار التي تنم عن عبقريته وسعة خياله، الأمر الذي بوأه مكانة أسطورية خالدة في تاريخ الشعر العربي.
ذات يوم أنشد بشار « دسست إليها أبا مجلز» فقال له رجل: من أبو مجلز هذا يا أبا معاذ؟ فقال وما حاجتك إليه؟ هذا رجل يتردد بيني وبين معارفي في رسائل.
في المقطع السابق يؤكد لنا بشار أن له عالمه الخاص الذي يستحضره في أي وقت ويؤثثه بما يشاء من بشر وأماكن. وإذا سأله الناس فإنه يحاول أن يجد له واقعًا كأن يقول لهم هذا شخص يخصني بيني وبينه كذا وكذا. وفي الحقيقة هذا غير موجود أصلًا إلا في مخيلة المبدع.
حتى في عصرنا الحديث نجد قصصًا ومواقف من هذا القبيل. ومما يروى مثلا عن الشاعر الروسي الكبير باسترناك الحائز على جائزة نوبل، أنه كان ينتقد جوزيف ستالين جهارًا. فكان جهاز المخابرات يخبرون ستالين بالأمر قاصدين من ذلك طلب الإذن لاعتقاله، ولكن ستالين يعرف أن باسترناك شاعر فكان يقول لهم «اتركوا القاطن فوق السحاب وشأنه» أي أن باسترناك يعيش في الخيال فلا خوف منه، طالما أنه لم يؤسس جماعة ضد الدولة أو ينتمي لخلية مناوئة.
