am5556555
am5556555
أعمدة

ماركيز وألف ليلة وليلة

21 أبريل 2021
21 أبريل 2021

محمود الرحبي -

بمناسبة الذكرى السابعة لرحيل الروائي الكولومبي جابرييل جارسا ماركيز يمكن الحديث عن أكثر من جانب في تراث الروائي الأكثر شهرة في العالم.

ماركيز «ساحر الكلمات» كما وصفته لجنة نوبل، أو ماركيز المثقف العضوي كما توحي سيرته، خاصة في ما يتعلق بوقوفه إلى جانب قضايا الأمم وكان من أهمها القضية الفلسطينية. هناك كذلك من يحب الحديث عن علاقته بالرئيس الكوبي فيديل كاسترو، رغم أن ماركيز كانت آراؤه السياسية ليبرالية وكان يأخذ جانب الكاتب المحايد أو الصحفي المهني في كل لقاءاته مع الزعماء، حيث كانت الصحافة هي الباب الأول لتعرفه على الزعيم الكوبي. في هذا السياق قرأت له أخيرًا كتابًا يتضمن مقالاته الصحفية، كما قرأت من قبل له كتاب ( كوبا في زمن الحصار) يتحدث فيه عن علاقته المباشرة بكاسترو، حيث يتضح أنها كانت علاقة احترام وتقدير، أكثر منها علاقة تماهي وتبعية.

هناك كذلك مستوى آخر يمكن الحديث عنه في إطار هذه العلاقة بالآخر، وهو تشرّب ماركيز لكتاب العرب الخالد ألف ليلة وليلة، الذي - دون مبالغة- كان له كبير الأثر على الآداب الأوروبية ما إن ترجمه أول مرة أنطوان غالان إلى الفرنسية بداية القرن الثامن عشر. ويطول الشرح في استعراض تأثير كتاب « الليالي العربية» على أجيال بأكملها من الكتاب الأوروبيين.

بالنسبة لماركيز يمكن القول - بقليل من الحذر- إنه مدين لألف ليلة وليلة في تعميق واقعيته السحرية. فلا يمكن ذكر تيار الواقعية السحرية الذي عرف به كتاب أمريكا اللاتينية دون الانطلاق من تحفة ماركيز « مائة عام من العزلة» التي طبقت شهرتها الآفاق. نجد هذا التأثر بداية من القصة الإطار التي عرفت بها الليالي، حيث سنلاحظ في تحفة ماركيز حياة الجد في عائلة أوريليانو بوينديا، الذي تعود إليه الرواية في كل مرة، ونراه مسيطرا على الحكي - كما هو الحال عند شهريار- سواء عادت إليه الرواية مباشرة أم من خلال تكرار اسمه بين أسماء أحفاده وكأنه موجود بشكل من الأشكال حتى وهو تحت الثرى. كذلك هناك التوالد الحكائي الذي يتميز به كتاب الليالي العربية، حيث تولد كل حكاية من رحم الأخرى، نجد أمرًا قريبًا من ذلك في مائة عام من العزلة. أكثر من ذلك سنجد في صفحات الرواية وخاصة في ما يتعلق بحياة الغجر أن بعضهم يطير في بساط الريح، بالإضافة إلى الخروقات العجيبة التي يأتون بها، التي تذكرنا بكتاب الليالي، حيث إن الخيال يستلم زمام المبادرة إثر كل انطلاق من الواقع الحي في الكتابين. كما أن لعبة الإيهام (بالواقع وبضده) السمة الغالبة على العملين. وبالانتقال من القرائن النسقية الضمنية إلى المباشرة، سنجد - مع تقدم القراءة لتحفة ماركيز- في إحدى الصفحات، ومن خلال وصفه لأحد الأحفاد وكان في سن صغير، أنه يدخل إلى مكتبة والده السرية ويأخذ كتابًا قديمًا وحين يقلبه يصاب بالدهشة. هذا الكتاب لم يعلن عن اسمه ماركيز في الرواية ( وإلا كان سيفضح أسرار اللعبة الخفية) ولكنه أعلن عنه في مكان آخر في ما يشبه لحظة اعتراف نبيلة من الكاتب الكبير، وذلك في مذكراته التي حملت عنوان ( عشت لأروي) حين قال : (تعلمت من ألف ليلة وليلة ما لن أنساه أبدا). حيث يسرد بأنه في عمر صغير - سنكتشف أنه العمر نفسه الذي رمز به في الرواية- أنه قرأ الكتاب وتعجب منه.

انفتاح ماركيز على تقنيات جديدة لا يقف عند حد ألف ليلة وليلة، بل استخدم كذلك أدوات الصحافة في الكثير من رواياته؛ لا بد أن ماركيز وهو صاحب تجربة عريضة في الصحافة، حين كان يطرق باب الأدب قد تأثر بكل ما مر به في حياته، فإلى جانب قراءاته وتجاربه الحياتية المباشرة، سنجد أنه استفاد من المهنة نفسها التي كان يعتاش منها، وهي مهنة الصحافة، حين حوّل بعض تحقيقاته الصحفية التي أنجزها إلى روايات.

كما نجد ذلك بصورة مباشرة في رواية (أجمل غريق في العالم) حين حوّل تحقيقًا صحفيًا -كان سبق وأن أعده للصحيفة التي يعمل بها- إلى رواية قصيرة شيقة. الأمر عينه حدث بعد ذلك بوقت طويل مع رواية «خبر اختطاف» التي أصدرها عام 1996 وهي فترة قريبة من وقوع حادثة اختطاف قام بها مهرب المخدرات الشهير بابلو اسكوبار، حين التجأ -من أجل الضغط على الحكومة لتغيير سياستها في تسليم المجرمين إلى أمريكا-

إلى اختطاف أهم الشخصيات السياسية والإعلامية في كولومبيا.

ذات مرة جمعني لقاء بالرباط بسفير سابق لكولومبيا (قضى عقدًا ونصف سفيرًا في عدد من دول أمريكا اللاتينية) حيث وجّه مدير مهرجان أصيلة الثقافي محمد بن عيسى وهو شخصية ثقافية معروفة ووزير لخارجية المغرب، وجّه دعوة لجارسيا ماركيز لزيارة المغرب عن طريق السفارة في بوغوتا. المهم أن السفير بحث عن ماركيز فقيل له أنه يقيم في المكسيك. فاضطر لأخذ طائرة والذهاب إلى المكسيك. فاستقبلته زوجته ميرثيدس خير استقبال، ولكنها قالت له إن ماركيز حاليا غير موجود وستعطيه الرسالة ما إن يعود. وبعد أيام تفاجأ السفير برسالة مكتوبة وموقعة بخط ماركيز يعتذر فيها عن المشاركة.

رسالة مرصعة بعبارات التهذيب حتى أنه حافظ عليها في إطار وعلقها.