أفكار وآراء

المجتمعات لا الدُّوَل.. عامل مفتاحي جديد لهزيمة الجائحة

18 أبريل 2021
18 أبريل 2021

فريد زكريا - واشنطن بوست -

ترجمة - قاسم مكي -

بعد شهور قليلة من اقتحام «كوفيد-19» لمسرح العالم بدا واضحا لماذا أن أداء بعض البلدان جيد في مواجهته وأداء بلدان أخرى سيئ.

البلدان التي كانت بها حكومات قوية وفعالة مثل الصين وتايوان وسنغافورة وألمانيا سجّلت وفيات قليلة من الفيروس. والبلدان التي لديها قيادات ضعيفة وأجهزة بيروقراطية مختلّة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا وشيلي والبرازيل كان أداؤها هزيلا.

لكن الآن وبعد مرور عام من اندلاع الجائحة صار الوضع أكثر تعقيدا على نحو ما.

فالعديد من البلدان الأوروبية التي تمكنت من السيطرة على الفيروس تشهد الآن ارتفاعات حادة في حالات الإصابة بـ«كوفيد-19». وبعض البلدان التي تلقت ضربات عديدة من الفيروس حققت نتائج جيدة بالتطعيم. كيف يمكن فهم هذه الحقائق الجديدة؟

يظل صحيحا القول إن المكوِّن الأقوى تأثيرًا للتعامل الناجح مع الجائحة يتمثل في المؤسسات الحكومية الفعالة والقوية، خصوصا في مجال الصحة العامة. لكن من الواضح أن ذلك ليس كافيا. فبالإضافة إلى الدولة علينا أن نتطلع إلى المجتمع.

منذ فترة طويلة تطرح ميشيل جيلفاند، أستاذة علم النفس الثقافي بجامعة ميريلاند فكرة أن التمييز المفتاحي بين البلدان يرتكز على صرامة أو مرونة ثقافاتها. فبلدان الثقافات الصارمة (المنضبطة أو الجماعية) مثل الصين تميل إلى الاتصاف بقدر كبير من الاحترام للقواعد والأعراف. أما بلدان الثقافات المرنة (المتساهلة أو الفردانية) مثل الولايات المتحدة فتنحو إلى تحدي هذه القواعد وانتهاكها.

في ورقة نشرت في دورية «لانسيت بلانيتاري هيلث» في شهر يناير من العام الحالي، درست جيلفاند وعدد من زملائها 57 بلدًا وتوصلت إلى أن معدل الإصابات والوفيات بـ«كوفيد-19» في البلدان المتساهلة ثقافيا بلغ خمسة أضعاف الإصابات وتسعة أضعاف الوفيات في بلدان الثقافات المنضبطة.

تشير جيلفاند إلى أن هذا التمييز بين المجتمعات المتقيدة بالقوانين في مقابل المجتمعات التي تنتهكها لوحظ أول مرة بواسطة هيرودَتَس (مؤرخ إغريقي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ومؤلف أول كتاب تاريخ سردي كان موضوعه الحروب الإغريقية الفارسية - المترجم). كما ذكر هذا التمييزَ العديدُ من الأنثروبولوجيين والعلماء على مر القرون.

لكن جيلفاند حاولت دراسة الظاهرة منهجيًا وتحديد العواقب التي تترتب عن هذه السمات الثقافية. في مارس 2020 ومع تزايد انتشار الجائحة حذرت من أن مجتمعات الثقافات المتساهلة ستمرُّ في الغالب بفترة صعبة ما لم تتحول إلى الصرامة والتشدد.

الأرقام تتحدث عن نفسها. عندما ننظر إلى الوفيات التراكمية مقابل كل مليون شخص وسط البلدان الكبيرة سنجد أن بلدان الثقافات المتساهلة مثل بريطانيا والولايات المتحدة والبرازيل والمكسيك هي الأسوأ أداء. أما بلدان الثقافات المنضبطة مثل تلك التي توجد في شرق آسيا كالصين واليابان وتايوان وسنغافورة وفيتنام فقد حافظت كلها على معدلات منخفضة من الإصابة بـ«كوفيد-19» والاحتجاز بالمشافي والوفيات.

لا تزعم جيلفاند بأن هذه التمايزات الثقافية متجذرة في اختلافات جوهرانية (فطرية) بين الشرق والغرب ولكنها مُنتَج عقلاني لحقائق تاريخية (حروب وغزوات ومجاعات وأوبئة). وهي حقائق تنحو إلى تطوير ثقافات صارمة ومنضبطة يصبح فيها اتباع القواعد نمطًا للبقاء على قيد الحياة. مثال لذلك تايوان، التي تتعرض باستمرار لتهديد التدخل العسكري الصيني، في مقابل الولايات المتحدة، المحمية بمحيطين واسعين شاسعين (الأطلسي والهادي) وجارين حميدين (كندا والمكسيك). فالبلدان التي ظلت آمنة ومزدهرة لفترة طويلة صارت أكثر تهاونا ومرونة في مراعاة الأعراف.

هذا التمييز بين الدولة والمجتمع يسلّط ضوءًا قويًا على أوروبا. ففي العديد من البلدان الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا تتعامل الدولة مع الجائحة بطريقة جيدة. ونتيجة لذلك أمكنها تسطيح منحنى الجائحة بعد الموجة الأولى. لكن في نهاية المطاف مَلَّ الناس وضجروا من اتباع القواعد (بحسب تعبير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون). ففي فرنسا، انهار التباعد الاجتماعي أثناء فترة الإجازات خلال شهر أغسطس. وفي ألمانيا، قرر الناس التجمع في الأعياد بعد شهور قليلة لاحقا. وكانت النتيجة ارتفاع حالات الإصابة بـ«كوفيد-19».

كما يبرز طرح اللقاحات بُعدًا آخر لهذه الظاهرة. فبعض البلدان الأكثر تساهلًَا والتي كان أداؤها ضعيفا في السيطرة على الجائحة عبر إجراءات مثل التباعد الاجتماعي (الولايات المتحدة وبريطانيا وبريطانيا وإسرائيل وشيلي) كانت الأكثر ابتكارا ودينامية في تطوير واقتناء وتوزيع اللقاح.

فالسمات (الثقافية) التي جعلت من الصعب اتباع قواعد التباعد الاجتماعي كانت هي نفسها التي ساعدت على إيجاد الحل للمشكلة. والآن تنتفع هذه البلدان من هذا الإبداع وركوب المخاطر وانتهاك القواعد.

قالت لي جيلفاند: المسألة ليست أن سِمَة (ثقافية) ما أفضل من سمة أخرى. وشرحت ذلك بقولها «سواء كُنتَ بلدًا أو شركة أو حتى عائلة، أنت تريد أحيانًا أن تكون صارمًا وأحيانًا متساهلًا. الشيء الأساسي هو: هل تعرف كيف تنتقل من أحد جانبي الطيف إلى الجانب الآخر (من التساهل إلى الصرامة والعكس)».

وتشير إلى أن نيوزيلندا التي عموما تعتبر بلدًا متساهلًا اتجهت إلى الصرامة (تشددت في التقيد بإجراءات الوقاية) عندما واجهت «كوفيد-19». وفعلت اليونان الشيء نفسه تحت قيادة رئيس وزراء قدير إلى حد بعيد.

تقول جليفلاند «يجب أن يكون الهدفُ هو البراعة في استخدام كلا اليدين. بمعنى أن نتشدد ونتساهل بحسب المشكلة التي نواجهها».