أفكار وآراء

صورة آدم.. في القرآن

18 أبريل 2021
18 أبريل 2021

خميس بن راشد العدوي -

الصورة في القرآن.. لها إطار خارجي وإيحاء داخلي. الإطار الخارجي.. يتمثّل في لغته وبيانه، يرسم الحدود المتشخصة للصورة، وترسمه ريشة اللغة، فهو خاضع لإمكاناتها، ومحدود بأدواتها، وبالأساليب التي اصطنعها أهل البيان فيها، بيد أن القرآن لا تقف الصورة فيه عند حدود هذا الإطار، إنها ذات ديناميكية تكاد تقفز من إطارها اللغوي، ولذلك.. نرى هذا الأفق الواسع من التفسير للنص القرآني، وأي نص غير القرآن تنفد معانيه أمام آلة التأويل، وتتباطأ حركة شخوصه مع إجالة النظر فيها، وقد نفذ القرآن من هذا القانون الصارم للغة بسبب الإيحاء الداخلي لصوره، وهنا مكمن سريان الروح الإلهي فيه، وقد جاء في الرواية: (ولا يَخْلَق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه)، ودلالة الرواية صحيحة، قالها النبي أو لم يقلها، يدركها كل من تعامل مع القرآن وكان البيان زاده.

الإيحاء الداخلي للصورة في القرآن.. هو ما يمدها بالحركة الدائبة المؤثرة، إنه منطقة التقاء الوحي الظاهر لكلمات الله بـ«الوحي الداخلي» المنعقد من الصلة بين الإنسان وخالقه، إنه يسرح بالنظر في أفق لا نهائي من التصور؛ يغزو الوجدان، ويثير العقل، ويدفع بالجوارح إلى العمل، فهو ليس من جنس الفن الذي «يخدِّر» الإنسان.

سأنظر إلى الصورة من خلال إطارها الخارجي بحسب البنية اللغوية، لأن اللغة هي حاملة الصورة، وتمثّل أحد الأسيجة التي لا ينبغي الخروج عنها، لتتضح الرؤية الصحيحة. أنظر إليها دون نظارات معتقداتي، فالقرآن.. تنزيل فوق المعتقد، وغير خاضع للعلم البشري؛ بمناهجه وابتكاراته. وأنظر إليها كذلك من خلال الإيحاء الداخلي الموصول بالله في النفس الإنسانية، وهو الروح الذي يديم فاعلية التصور في النفس، بما يدفعها إلى الله والعمل الصالح، وهما الغاية العليا من نزول القرآن.

صورة آدم في القرآن.. متسعة، ذات مشاهد عميقة مبهرة، إنها تحكي قصة الإنسان بكل مشاربه وأحواله وطبائعه، ولا يسعف المقال لتتبعها كلها، فهي تحتاج إلى فصل أو كتاب، وإنما ألقي نظرة على المشاهد الأولى في خَلْق آدم. نعلم أن تصوّر خَلْق آدم ذهب الناس فيه طرائق قدداً، وكل تلك الصور التي أضفوها عليه محدودة في زمنها، ومشوشة لا تكاد تبين الغرض منها. أما الصورة القرآنية فتنساب أمام ناظرَي متأمل القرآن، لا يخفت بريقها، تمده بالوعي، وتوقظ لديه السلوك.

يقول الله عن آدم بأنه: (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، وقال عنه أيضاً: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، نحن أمام كائن، ليس من نوع ما تنسجه الأساطير، ولا مما يصطنعه الخيال الأدبي، ولا أفلاطوني المثال، بل كائن ترابي التكوين، خاضع للسنن الطبيعية في الحياة كغيره من الكائنات، إلا أنه ليس من جنس بقية الأحياء، فقد اختص بطاقات عقلية دون غيره، جعلته مميزاً في الوجود، يملأه صخباً، ويبنيه عمراناً، ويسبره بحثاً. جرى تصوير هذه الطاقات الجبارة بـ«كلمة الله كن»، و«خلق الله له بيده»، ولو أنك حاولت بما أوتيت من وهج في الخيال، وسحر في البيان، وكانت اللغة لك طوع البنان، فلن تستطيع أن ترسم مشهداً بمثل هذا التصوير المنقطع النظير، يراه القارئ، بل يكاد يلمسه، دون أن يخرج بشخصه عن واقعيته، أو يقع في تحجيم دوره، ومع ذلك.. فهذه الصورة التي تراها بجنانك لا تستطيع أن تكيّفها بعينيك، فلا يد الله يمكن أن تلمسها بيدك، ولا كلمته يمكن أن تسمعها بأذنك، إنه قوة المشهد وعمق التصوير. ولذلك.. علينا ألا نقع في فخ محاولة تكييف كلمة الله والخلق بيد الله، فهذه ليست صوراً كبقية الصور، وإنما هي الروح الذي يسري في الموات فيبعثه حياً دون أن تقدر على الإمساك به بحواسك الترابية، بل عليك أن تفسح له المجال أمام روحك الذي يعمل في أعماقك، لأنهما من نفخة إلهية واحدة.

هذا المخلوق الترابي.. ليس عادياً، فأنت ترى في الصورة مشهد خلق الله لآدم بيده، وبكلمته، إنك ترى كائناً تتمثل فيه القدرة الإلهية التي ينفعل لها الكون بلا زمن، و«اللازمنية».. إحدى أهم أدوات تحريك الصورة دون توقف في الذهن. إن الآدمي قادر أن يدير كل شيء حوله، وبإمكانه أن يتصرف بكل ما يمكن أن تتصوره، إنه طاقة غير محدودة إطلاقاً، إلا بالحدود التي وضعها الله في الكون، وهي طاقة بناءة قادرة أن تسخّر ما في السماوات والأرض، لا تدركها عقولنا مطلقاً قبل إرهاصات حصولها، لأنها عقول تحكمها المعرفة التراكمية.

العلم.. هو المشهد التالي الذي نراه من صورة آدم؛ قال الله: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) «البقرة:31-33»، لقطة فخمة من الملائكة؛ بأعدادهم الكثيفة وهيئاتهم المهيبة، صفوفاً خشّعاً بين يدي الله، الأرض تهتز من تحتهم، والسماوات تأط من فوقهم. في هذا المشهد.. أمام الملأ الأعلى من الملائكة ينبئ آدم بكل الأسماء التي عرضها الله عليه، من دون قصور في المعرفة، ولا حيرة في الفهم، ولا وجل من الحاضرين. هذا المشهد الذي يكاد تقع النفس منه مغشياً عليها؛ ما هو إلا إطار خارجي، رسم بريشة الكلمة. أما الإيحاء الداخلي.. فآدم لديه استعداد غير محدود للعلم، والاستفادة منه وتسخيره، لنرجع قليلاً إلى لحظة نزول الوحي.. كيف تصوّر قارئ القرآن قدرة الآدمي على التفاعل مع الوجود بالعلم؟ إن هذا الإيحاء العميق هو مما دفع بالمسلمين لصناعة حضارة كانت الأولى في وقتها.

ولنتصور الآن المشهد في ظل الحضارة المعاصرة، ألا يجعلنا نقف بإجلال أمام هذه الصورة القرآنية الباهرة لتصوير قدرة آدم على تحصيل العلم واستغلاله المذهل، حتى أصبح يفعل به ما كان يُظن بالأمس أنه من اختصاص الله وحده، إن هذه الصورة تجعل الإنسان ينفي أن يكون هذا الرسم بقلم جاف أو بريشة متيبسة لا يسري فيها مداد من روح العلي المصور لآدم ذاته.

قال الله: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) «البقرة:30»، هذه الآية تسبق الآيات السابقة مباشرة، ولكنها نتيجة لها، وتقدمها ملفت للانتباه، فالغاية من وجود آدم على الأرض هو أن يكون خليفة، وقد أعلم الله الملائكة بذلك، لكن من هم هؤلاء الملائكة؟ الصورة.. لا تخفي ملامحهم المطلوبة في المشهد، فهم كائنات مسبِّحة بحمد الله ومقدِّسة له، وعبر لسانهم نرى صورة الخليفة يفسد في الأرض ويسفك الدماء، مشهدان متناقضان؛ يتصاعد منهما ديالكتيك التفكير. تأمل الصورة بإيحائها الداخلي، كائن يفسد ويسفك الدماء سيجعله خالق الوجود خليفة في الأرض، ما هذا المشهد المرعب؟! إنك ترى الإفساد والسفك فتنتظر نفيه أو تبريره، لكي تهدأ نفسك، لكن الهدوء النفسي يأتي من مشهد آخر غير متوقع.. وهو أن هذا الكائن يمتلك العلم؛ العلم بكل شيء يتعلق بوجوده، ولن يقف أمامه شيء ليحقق الخلافة، فكل مسِيْر آدم على الأرض هو بالعلم وحده، هل نرى الإيحاء الداخلي للصورة؛ الذي لم تستطع الملائكة أن تراه؟ إنها ترى من آدم المفسد سافك الدماء، بينما يرينا النص حقيقته بأنه «جهاز علم» لا يسكن، وغير قابل للسكون، العلم الذي يصنع المعجزات ويحطم المستحيلات؛ بما فيها ترويض الإنسان من طبعه الذي لحظته الملائكة في الأزل.

أكتفي بهذا اللقطات من صورة آدم؛ تاركاً المجال لقارئ القرآن أن يتدبر بقية مشاهد الصورة، راجياً أن يكون هناك عمل أوسع من هذا.