أفكار وآراء

قيم الإسلام التي تعيننا على ضيق الحياة والتصدي للأزمات

17 أبريل 2021
17 أبريل 2021

د. عبدالعاطي محمد -

مع بدايات شهر رمضان الكريم من كل عام، تتجلى أمامنا قيم الإسلام النبيلة التي جاءت بها رسالته السامية لكى تجعلنا نحن المسلمين بشرا يتفاخر بنفسه بين الأمم. وهى قيم تجمع بين الصلاح لنا في الدنيا والآخرة وتعد أنموذجا للآخرين في العالم كله بكل أطيافه، في إقامة العمران وتحقيق السلام والأمن على قواعد مضيئة للعدل والمساواة والإنسانية.

المعلوم للكافة منا نحن أمة الإسلام، هو أن نتذكر هذه القيم دائما في كل أوقات العام، فذلك من تمام البرهان على تفعيل الإيمان برسالة الإسلام الخالدة قولا وفعلا، ولكن الشهر الكريم بما يحمله من طابع خاص حيث نزل فيه القرآن الذي يعد دستورا إلهيا ينظم ويدبر حياة المسلمين، ولما ما يحدثه من انتفاضة روحية، يتجدد الاهتمام الكبير بتذكر هذه القيم وبشحن الهمم للعمل بها مهما كانت المصاعب والتحديات في كل ما يخص الإسلام والمسلمين. ولا أدل على ذلك من الفرحة والسعادة اللتين تغمران قلوبنا كلما هل الشهر الكريم شاكرين الله أن بلغنا إياه لكي نراجع أنفسنا فيما أهملناه خلال عام مضى، ولكي نتزود بقوة جديدة تمكننا من تصحيح التقصير، والعزم خلال عام جديد بإذنه تعالى على استعادة الطريق الصحيح الذي رسمه لنا الإسلام والعمل به، لما يمثله هذا الطريق من خير ورشاد لنا في كل مناحي الحياة.

ولا شك أن مسؤولية التفاعل الإيجابي مع مناسبة حلول الشهر الكريم تقع الريادة فيها لأهل العلم بكل جوانب العقيدة، الذين يعلمون أكثر من غيرهم بالطبع، الأسس والمعاني الحقيقية لأركان الدين الإسلامي الحنيف، وما تطالب به من عبادات ومعاملات، ولكن بجانب ذلك هناك عامة المسلمين الذين تقع عليهم مسؤولية تنفيذ ما يقول به العلماء من رجال الدين أو أهل الاختصاص الفقهي، وهم بحكم انخراطهم في الحياة الدنيا بكل ما تشمله من تعقيدات ومصاعب، وهموم وأحزان وأفراح أيضا، غالبا ما يشغلهم ذلك عن العمل بالإسلام الصحيح، ومن هنا يأتي اتساع المسافة بين ما يتعين العمل به، وبين ما هو قائم من حيث الواقع المعاش. ولعل الهم الأكبر الذي يواجه المسلمين هو التغلب على هذه الفجوة. ويزداد التحدي كلما تنوعت وتعمقت الأزمات بفعل مستجدات الزمان من حيث توالي الضغوط والتحديات التي أصبحت هما يعاني منه كافة المسلمين، لا فرق بين مذهب وآخر، أو بين حركة إسلامية وأخرى، ولا بين نظام إسلامي وآخر، فالكل اليوم في الهم سواء.

لا ندعي أن تجسير الفجوة بين القول والعمل مسألة بسيطة أو هينة، فتلك قضية قديمة قدم الدعوة الإسلامية والجدل فيها يطول، ولا ندعي أنها مسؤولية العلماء ورجال الدين وحدهم أو مسؤولية عموم المسلمين وأنظمتهم التي يديرون بها شؤون حياتهم وحدهم، وإنما هي مسؤولية الجميع. إلا أن مناسبة الشهر الكريم تبرز إلى حد كبير مسؤولية عموم المسلمين أو المسلم المعاصر، لأنها موضع اختبار عملي لكى يبرهن بفعله الذاتي إلى أي حد هو يعمل حقا بتعاليم الإسلام. هنا من الطبيعي أن ينشط دور الدعاة ولكنه لن يخرج عن الدور الذي يقومون به بقية شهور العام، مع تركيز على ما يرتبط بالشهر الكريم من شؤون العقيدة، ولكن الفارق يبقى – دون نقاش- متمثلا في أن المناسبة تفرض اختبارا عمليا على كل مسلم لا مجرد أن يكون متلقيا فقط لإرشادات الدعوة، لكي يثبت حقا أنه يعمل بتعاليم الإسلام. نعلم قطعا أن الحج أحد أركان الإسلام الخمسة وخلاله يقوم المسلم بتجربة عملية في إيمانه بالعقيدة، ولكنه لمن استطاع إليه سبيلا، ولكن الصوم فريضة على كل مسلم في شهر رمضان إلا من كان له عذر شرعي، ومن ضروراته الإكثار من الصلاة وقراءة القرآن، والالتزام بتفعيل القيم السامية الإنسانية التي جاء بها الإسلام كالتسامح والتآخي والكف عن المعاصي بكل أشكالها وغيرها مما يضيء صورة المسلم الحق. ويعمل المسلم كل هذا من تلقاء نفسه.

عموم المسلمين هم الذين في بؤرة الأحداث خلال الشهر الكريم، مع التقدير للدور الذي يتحمله رجال الدين والدعوة، وعليهم تقع المسؤولية في المقام الأول لإضاءة صورة الإسلام الصحيح لأنهم يقدمون تجربة على أرض الواقع يمكن التدليل بها على عظمة الإسلام بكل ما جاء به من قيم سامية للصلاح في الدنيا والآخرة. وللاستفادة من الفرص التي يتيحها الشهر الكريم، وللعمل على تقديم تجربة عملية على تفعيل الإسلام الصحيح، فإن عموم المسلمين عليهم أن يقرأوا المشهد الإسلامي سواء على مستوى العقيدة أو التطبيق العملي قراءة جيدة وألا يكتفوا فقط بالعمل المعتاد فيما يتعلق بعبادات الشهر الكريم، لأن الهم ثقيل ولا يخطئه إلا من ليس له عينان، وما هو عام تداخل إلى حد كبير مع ما هو خاص، حيث لا يعقل أن يدعي عموم المسلمين أنهم لا يتأثرون بما يجري حولهم برغم قيامهم بما هو معتاد من فروض خلال الشهر الكريم.

في قراءة المشهد الإسلامي لابد من الاعتراف بأن المسلمين يواجهون تحديات جديدة غير مسبوقة لو قورنت بما كان منها قبل نهايات القرن العشرين ومنذ بداية القرن الحادي والعشرين، كلها تتعلق بالجوانب الثقافية والسياسية والأمنية والتنموية الاقتصادية. وقد يرى البعض أنه لا جديد في الأمر بالنظر إلى أنها كانت قائمة قبل عقود طويلة مضت وشغلت اهتمام الجميع من مفكرين وباحثين وسياسيين، ولكن التأثير على مسيرة المجتمعات والنظم كان تحت السيطرة إن جاز التعبير، بمعنى أنه كانت هناك القدرة على التعامل معها دون أن تؤدي إلى التهديد الحقيقي لبنية المجتمعات والنظم، وأما اليوم فإن التهديد قائم بالفعل بل إنه وقع فعلا لبعض المجتمعات والنظم. ففي الماضي لم تكن هناك عولمة، ولا اكتساح لوسائل الاتصال الرقمية، ولا خلل جسيم في الأوزان النسبية لقوة الأنظمة والمجتمعات، ولا صراع دوليا يصل إلى حد التهديد المتواصل باشتعال حروب جديدة بنسخ أكثر فتكا من السابق، ولا إرهاب محلي أو معولم، وأما اليوم فكل هذا موجود ومؤثر في العقول والسلوك، ومن ثم تعاظمت المخاطر من وراء كل هذه التحديات، وأصبح السؤال المتكرر صباح مساء هو كيف يمكن التعامل معها بما يحقق التوافق مع متطلبات العصر والحفاظ على الهوية والقيم الإسلامية والتراث العظيم للحضارة الإسلامية في عصورها الذهبية.

لدينا في هذا الإطار مشكلة ثقافية تؤثر إلى حد كبير في تشكيل الهوية، تتنوع ما بين الخلاف القديم الجديد بين الإسلام والعلمانية أو بين دور الدين في تدبير شؤون الحياة وبين الاحتكام فقط لقدرات الفرد العقلانية دون تدخل الدين الذي يصبح فقط مجرد التزام أخلاقي شخصي بين المرء والخالق. وما بين التعامل مع سيل التدفق الفكري المربك الذي جاءت به العولمة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي مربكا للثوابت أكثر من كونه داعما للقيم التي ارتضتها البشرية في سعيها إلى التقدم والازدهار للجميع على قواعد من العدل والمساواة، ويرتبط بهذا الانتشار المفرط في وسائل الإعلام التي يعمل معظمها بعيدا عن متطلبات المسؤولية الوطنية، وما بين الإحياء للنزعات «القوموية» المهددة لوحدة الأوطان واستقرارها، ومحاولات لإشعال الفتن المذهبية. ولدينا مشكلة سياسية تتعلق بتغيير النظم السياسية قسرا بفعل عوامل داخلية أو تدخلات خارجية، وهو أمر لم يعد طرف بعينه بعيدا عنه بما في ذلك كبريات الدول، وتكفي التذكرة بما يتعلق بأوضاع وعلاقات دول كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، ناهيك بالطبع عما حدث في منطقتنا العربية، ولدينا مشكلة نظامية تتعلق بكفاءة المؤسسات وبما يسمى بالقوى الناعمة سواء كان مجالها الدين أو الدنيا. في الماضي كانت لدينا مؤسسات قادرة على التصدي للتهديدات والنجاح في التعامل مع المستجدات، وأما اليوم فإنها تحاول التصدي للمخاطر بجهد مشكور ولكنه يبقى جهدا أقل من مستوى حدة المخاطر، وأما بخصوص القوى الناعمة فقد كانت لدينا هذه القوة في عصور مضت ليست من زمن بعيد وقت أن كانت منطقتنا العربية والإسلامية تزخر بالمبدعين في مجالات الفكر والفنون على اختلاف أشكالها مما كان يحدث مناعة وطنية عند أبناء المجتمعات بغض النظر عن مستوى ثقافتهم ضد أي تهديدات وللتغلب على مصاعب الحياة، أما اليوم فليس من المبالغة القول إننا نعيش مرحلة من «الفقر الفكري». ومن بين هذه القوى الناعمة كان لدينا دعاة ومجتهدون في شؤون الدين نفتقد لأمثالهم اليوم.

صعوبات المشهد وتحدياته لا ينبغي الفهم بأنها مدعاة لتبرير التقصير، أو الاستسلام لأوضاع لا نقبلها، خاصة أنها أوضاع تهدد الحياة اليومية للمسلم المعاصر، مثلما تهدد العقيدة الإسلامية كرسالة إلهية، ولكنها دافع لاستعادة الهمة للتغلب عليها. وفى الشهر الكريم فرصة لاستعادة الهمة لأنه يسمح للمسلم أن يبرهن عمليا على قدراته الذاتية في التصدي لكل هذه المصاعب، علما بأن من مكارمه أن علاقة المسلم بالله سبحانه وتعالى مباشرة إلى حد كبير في الثواب والعقاب وفقا لما جاء في القرآن الكريم، والثواب فيه عظيم بلا شك. له أن يستنهض في داخله وعيا حقيقيا بكل ما جاء به الإسلام من قيم لصلاح الدنيا والآخرة، ولا عذر له بأنه لا يجد من يرشده لذلك حيث الدعوة لا تقصر، فضلا عن أن قراءته للقرآن، وفقا لما يتطلبه الطابع الروحي لشهر الصوم، أو الحرص على سماعه مرتلا إن لم يكن قادرا على القراءة، أمر كفيل بتمكينه من إدراك ما يجب على المسلم الحق أن يفعله. الفرصة قائمة وعلينا أن نستغلها لصلاح أحوالنا.

ينشر بالترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة