1620775_201
1620775_201
الثقافة

نقد: تهشيم الصورة

12 أبريل 2021
12 أبريل 2021

منى بنت حبراس السليمية -

في أحد الصفوف الابتدائية درسنا نصا لإبراهيم عبدالقادر المازني يبدأ بهذه العبارة: "لا أعرف الأمهات كيف يكنّ، ولكني أعرف أمي كيف كانت". شدّني هذا الاستهلال الذي وضعني لأول مرة أمام احتمال أن تكون الأمهات مختلفات، وأنهن لسن نسخا متشابهة بالضرورة. بقيتْ هذه العبارة تلازمني لسنوات، وأنا أحاول استعادة الشعور الذي تركه في نفسي نص المازني الذي ورد في الكتاب المدرسي بتصرفٍ حذفَ منه أجزاء مهمة، منها حديثه عن أبيه. ولكني اكتشفتُ أن ذلك التصرف كان أكثر وقعا في نفسي، أو لعله كان كذلك بسبب المرحلة العمرية التي تلقيته فيها، فقد أشعرني مع الوقت بحياد المازني في حديثه عن أمه، وأفكر الآن أنه حياد غير معهود في الكتابة عن الأم، قبل أن أعود مؤخرا إلى النص كاملا، لأدرك أن التصرف والحذف اللذين طالا النص في الكتاب المدرسي جعلاه _ على غير ما هو في حقيقته _ أقرب إلى العتاب منه إلى لغة الحب، مخالفا بذلك الصورة العامة التي يندر أن يحيد عنها أحد. فهل ندمتُ لأني عدتُ إلى النص الأصلي؟!

اكتشفتُ مع الوقت أن الأم في معظم الآداب نسخة واحدة، ومهما حاول المرء أن يكتب شيئا مختلفا بدعوى أن أمَّه مختلفة عن باقي الأمهات، أو أنها أفضل أمٍّ في الوجود، فلن يفعل أكثر من تكريس صورة مكررة عن أمهات الآخرين دون استثناء، وإنْ بلغة تحاول أن تكون أخرى. وهذه هي خلاصة نص المازني أيضا في عودتي الأخيرة إليه.

في الفيلم الأجنبي اختطاف (Kidnap) تُظهر أمٌّ بطولة خارقة لاستعادة طفلها المختطف وقد عجزت السلطات عن فعل شيء لإعادته إليها. يختم الفيلم بعبارة تقول: "قد يكون الاختطاف حدثا عاديا، ولكن الأم لا تكون عادية أبدا". ألا ينطبق هذا على كل أم؟ الأم التي تظهر قواها الخارقة متى ما تعرض ابنها للخطر، وتكتشف أنها قادرة على فعل ما لم تستطع دولة بقوتها وأجهزتها واستخباراتها فعله. "إنها الأم" هكذا نسارع إلى القول لتفسير تلك البطولة الخارقة. وإن أي أمٍّ أخرى يمكن أن تكون تلك الأم التي أدت دورها الممثلة هالي بيري.

ومثلها أنجلينا جولي في فيلم استبدال (changeling) لاقت العذاب النفسي والجسدي بعد اختفاء طفلها، لأن شرطة لوس أنجلوس عوضا عن أن تعثر لها على طفلها، تأتيها بطفل آخر وترغمها على الاعتراف بأنه ابنها لإنهاء القضية، ولكنها تتمسك بحقيقة أن ابنها مخطوف، وأن شرطة لوس أنجلوس فاسدة، وتختار _ كأي أم أيضا _ أن تعيش على أمل عودة ابنها الحقيقي كما عاد أحد الأطفال المختطفين إلى والديه.

وبالصورة المثالية نفسها نشاهد الأم في الفيلم التركي (هي أمي) التي أصيبت ابنتها الشابة بالسرطان، لنعيش مع إحساس الأم وهي ترى الموت يسحب ابنتها بعيدا عنها، على الرغم مما كانت عليه البنت من قسوة تجاه أمها في مراهقتها وشبابها. فمن منّا لم يتذكر أمه وهو يشاهد هذا الفيلم تحديدا، ومن منا لم تتملكه الرغبة في البكاء أو في احتضان أمه أو مهاتفتها قبل أن ينام خشية أن يكون صورة عن تلك الفتاة القاسية دون أن يشعر؟

نحن لا نستحضر أمًا بعينها في النصوص المكتوبة أو الأفلام التي تروي بطولات الأمهات؛ تكفي أم واحدة لنتذكر أمهاتنا جميعا منذ حواء. ألم تكن قصيدة محمود درويش (أحنّ إلى خبز أمي) قصيدة صالحة لكل أم؟ وينشدها الواحد منا وكأنها قيلت على لسانه، وأن أمه هي أم محمود درويش وكل أمهات العالم؟ وهل أغنية (يا نبع الحنان يا أمي) التي أدتها طالبات مدرسة المسلسل الكويتي "أسوار" إلا أغنية للأم في كل زمان ومكان؟

الأم المقدسة في النصوص الأدبية وفي السينما أو في الحياة الواقعية لا تستوقف أحدا على نحو مختلف؛ لأنها تتحول إلى فكرة نستمد منها ما يكرس الصورة التي نريدها جميعا؛ فكل الأمهات مقدّسات مهما اختلفت طبيعة التضحيات أو تعددت الظروف، بل إن العالم مليء بنساء سيئات ولكنهن في الوقت نفسه أمهات لأشخاص يرونهن مقدسات.

وحدها النصوص التي تنظر إلى الأمهات بوصفهن شخصيات عادية تصيب وتخطئ تكون نصوصا مختلفة. هي تلك النصوص التي تتناول نساء أصبحن أمهات بحكم الطبيعة أو الظروف أو القدر. نحن لا نحفظ شخصيات الأمهات في الأدب والفن إلا بالقدر الذي يصور الأمومة/ النموذج الذي تكرسه الأدبيات والنصوص الدينية، ولكننا في المقابل نتذكر بنحو خاص شخصيات أمهات كنّ على العكس من ذلك؛ الأمهات العاديات اللائي يحاولن الأمومة فينجحن أو يفشلن من دون أن يكون ذلك مبررا لتقديسهن أو لومهن. الأمهات اللائي يخطئن من دون أن يكون الحديث عن خطئهن عقوقا أو سوء تأدب. الأمهات اللائي يكرهن كونهن أمهات من دون أن يخرجهن ذلك عن الفطرة. أمهات عاديات جدا يمارسن دورا قديما _ على الرغم من أهميته _ يُخطئن في أدائه كحالة بشرية لا تثير الصدمة.

ففي فيلم (Bad Moms) أو أمهات سيئات مثلا، تحاول الأم الشابة إيمي _ التي أدت شخصيتها الممثلة (ميلينا كونيس) _ بشتى الطرق المستحيلة كي تنجح في أداء أدوراها المتعددة في وقت واحد بصفتها أمًّا لطفلين متطلبين، وزوجة لرجل اتّكالي، وموظفة في شركة قهوة ما ينفك مديرها يذكرها بواجباتها. تؤدي إيمي طيلة الوقت واجبات تجاه الآخرين، ولكنها تعجز عن تحقيق التوازن الذي يتطلبه كل طرف على حدة. يبدأ الفيلم بعبارتها: "أنجبت طفلتي الأولى بعمر العشرين عاما، ومذ ذاك وأنا أتأخر دائما". تتأخر إيمي الموظفة عن حضور اجتماعات الشركة، وتتأخر إيمي الأم في توصيل أطفالها إلى المدرسة، وتتأخر عن حضور مبارياتهم ومناسباتهم المدرسية، وتتأخر عن اجتماعات رابطة الآباء والمعلمين. ترتكب إيمي الكوارث في زحمة الإرباك اليومي لأداء فروض لا تنتهي.

تدرك إيمي مع صديقتيها كارلا وكيكي أن كل أمٍّ هي أمٌّ سيئةٌ بالضرورة، وما على الأمهات سوى الاعتراف بهذه الحقيقة حتى يستطعن التعايش بهدوء مع واقع الأمومة الصعبة، لعلهن يتحررن من الإحساس المقيم بالذنب؛ لأن كل ما عدا هذه الحقيقة ليس سوى تظاهر لن يزيد الأمر إلا تعقيدا، فليس بمستطاع أي أم، مهما ادّعت، أن تكون مثالية، ولن يزيدها حرصها على بلوغ المثالية إلا تعاسة أكبر.

تلقي إيمي كلمة ارتجالية في يوم انتخابات رئاسة رابطة الآباء والمعلمين أمام حشد كبير من الأمهات والمعلمات تلخص الحقيقة التي يتعين فهمها عند مقاربة صورة الأم وأدوارها. تقول: "ما يصلح لابنتي، لا يصلح لابني تقريبا. وكلما أظن أنني بدأت أفهم شخصيتَي طفليّ، يكبران فأعود إلى نقطة البداية. لذا، الحقيقة أنه عندما يتعلق الأمر بالأمومة، ليس لدي أدنى فكرة عما أفعله. أتعرفون؟ لا أعتقد أن أحدا لديه فكرة. أظن أننا كلنا أمهات سيئات، أتعرفن لماذا؟ لأن الأمومة حاليا ... مستحيلة. فهلاّ نتوقف رجاء عن التظاهر بأن الأمر كله تحت السيطرة؟ ونتوقف عن انتقاد بعضنا البعض مرة؟ ترشحت لرئاسة رابطة الآباء والمعلمين لأنني أريد أن تصبح مدرستنا مكانا يمكن اقتراف الأخطاء فيه ... حيث يمكن للمرأة أن تكون أما سيئة فيه. إليكن الأمر: لو كنتِ أما مثالية فهمتِ التربية كليا، فعليكِ التصويت لمنافِستي لأنها مذهلة، ولكن لو كنتِ أما سيئة مثلي وليست لديك أدنى فكرة عما تفعلينه، وسئمتِ من الانتقاد طيلة الوقت، فصوّتي لي رجاء".

وليس غريبا أن يصوّت جمهور الحاضرات لهذه الأم السيئة التي عبّرت بلسانهن جميعا عن استحالة الأمومة المثالية، وتخسر منافِستها التي تبيَّن أنها لم تكن أقل سوءا من الجميع لولا رداء التظاهر بالمثالية.

في روايات هدى حمد دون استثناء، تظهر الأم بصورة مغايرة عن الصورة النمطية. تبدو الأم في روايات "سندريلات مسقط" و"أسامينا" و"التي تعد السلالم"، وإلى حد ما في رواية "الأشياء ليست في أماكنها" منزوعة القدسية. شخصية بلا هالات تعصمها من الانتقاد والمجابهة والمحاسبة. في "سندريلات مسقط" مثلا نتعرف على تهاني؛ الأم لثلاث بنات لا تحبهن! وتخشى من التصريح بذلك حتى أمام صديقاتها. تهاني ليست أمًّا شاذة، بل هي أم طبيعية وعادية وما تحسه ليس غريبا أو كارثيا، ولكن كل شيء حولها يضغط باتجاه تمثيل الصورة، والاستسلام لهالة القدسية التي تحاط بالأمهات رغم أنوفهن جاعلة منهن قديسات، فيَنقَدن مرغمات خلف موجبات هذه الصورة كواجب أكثر منه فطرة أو طبيعة، ومدفوعات تحت وطأة تأنيب الضمير الدائم إلى طمر المعاناة الخاصة تحت أردية الصمت. فلربما تمكنت تهاني _ وأي أم أخرى مثلها _ من مجابهة مشكلتها الخاصة لو أمكنها التعبير عنها من دون خوفِ أن تُرمى بالجرم والشذوذ تحت ضغط الصورة المثالية من جهة، ورفض المتن الثقافي العام مجرد التعبير عن هذا الاختلاف الذي يشبه المجاهرة بالإثم من جهة أخرى.

مثال آخر أكثر وضوحا لهدى حمد في رواية "أسامينا" عن الأم التي لا تحب ابنتها، إلى أن نما بين الاثنتين شعور متبادل من عدم الحب، بلغ درجة الانتقام في مراحله المتقدمة. ما تقوله روايات هدى حمد يحدث في الواقع كما يحدث في الحكايات والأفلام، ولكن الصورة المتقنة تحجبه كما تحجب الابتسامات المُدرَّبة أشياء كثيرة أمام عدسات الكاميرا.

في منشور مثير للاهتمام على الفيسبوك في مطلع نوفمبر 2020، كتب الباحث العماني إسماعيل المقبالي مقالا بعنوان "الأم القاتلة بالغريزة" على إثر إقدام أم عراقية على إلقاء طفلها في نهر دجلة. يلفتني ما يورده إسماعيل من أن "الدراسات الأنثروبولوجية عن علاقة الأمومة تخالف الصورة المثالية التي تكرست في أذهاننا، بل هناك حقائق صادمة تحاول ثقافتنا الإنسانية الحديثة أن تخفيها، وتكرس بدلا منها نموذج الأم الحانية والمضحية، والتي هي ليست على إطلاقها، بل هي أقرب إلى الأسطورة". ويستشهد المقبالي بكتاب عالم النفس التطوري ديفيد بوس "علم النفس التطوري"، وبفقرات من كتاب عالم الأنثروبولوجيا مارفن هاريس "مقدسات ومحرمات وحروب: ألغاز الثقافة" ما يشير إلى أن عادة قتل الأمهات أطفالهن كانت موجودة وما تزال على مستوى كوني بين شعوب البلدان المتخلفة.

ويذهب هاريس _ كما ينقل لنا المقبالي _ إلى أن "أسطورة الأنثى الخاضعة بالغريزة والأم المعطاءة، مجرد صدى شكّله علم الأساطير الشوفيني الذكوري ويتعلق بالذكور الوحشيين بالغريزة". وعلينا أن نتخيل كم تُكره المرأة على تمثّل نموذج ليس سوى أسطورة تمت المبالغة في رسم مثاليتها، فمارست عبر الأزمان ضغطها عليها مسببة مشكلات نفسية ظلت تتناسل خلف الصورة البراقة، وإذا ما طفت على السطح يكون قد فاتها أوان العلاج.

ولنأخذ مثالا آخر فيلم Tallulah الذي تؤدي فيه الممثلة الكندية إلين بيج دور فتاة اختارت حياة التشرد والعيش في قلب سيارة تنتقل بها من مكان إلى آخر، وفي غمرة بحثها عن حبيبها الذي تركها دون سابق إنذار أو وداع، تجد نفسها دون قصد مضطرة لاختطاف طفلة بعمر سنة واحدة فقط من أمها المُهمِلة التي تشعر بالأسى لأنها أنجبتها. تقول الأم: "إن أحدا لم يخبرها بأن إنجاب الأطفال بهذه المشقة والعناء، وتود لو أنها لم تنجبها". الأم في هذا الفيلم مشغولة بأشياء أخرى تجدها أكثر متعة من الاعتناء بطفلة لا تعرف كيف تتصرف معها، وقد أفسدت بمجيئها كل شيء، بدءًا من إفساد جسد هذه الأم الذي لم يعد مغريا، انتهاء إلى إفساد أولوياتها في الحياة. هذه الأم ليست شاذة قياسا إلى بشريتها، بل هي شخص عادي اكتشف أن الأمومة لا تناسبه أو أنه لم يُخلق لأجلها، وليس في هذا الاكتشاف خطأ، ولكن الخطأ أنه جاء متأخرًا. في الواقع لا أحد يسأل الفتاة إذا كانت مستعدة لأن تكون أمًّا، وإنما يسألونها ما إذا كانت مستعدة للزواج، وكأنما الأمران سيّان، ثم تحدث الاكتشافات المتأخرة.

عندما تكتشف الأم المُهمِلة في فيلم Tallulah غياب طفلتها، يُصدم المشاهد بأن أكثر ما أحست به هو الخوف من زوجها. كانت مرعوبة من فكرة أن يعاقبها زوجها على إهمالها أكثر من خوفها على مصير طفلتها المفقودة، فتتوسل إلى الشرطة للعثور على طفلتها دون الحاجة إلى إعلام زوجها رجل الأعمال الشهير بالأمر خشية أن يقتلها! بطبيعة الحال سنسارع في هذه الحالة إلى إطلاق أحكام من قبيل: لابد أنها أم مريضة. ليست أمًّا طبيعية. إنها أمٌّ معطوبة الفطرة ولا تقدّر النعمة، أو أي شيء آخر يليق بأم اختارت الخروج من إطار الصورة.

في وصف الأمومة وصعوبتها، أو أشباحها، نستحضر كتاب إيمان مرسال "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها"، وهو كتاب بالغ الأهمية يضع عدسة مكبرة على تجربة الأمومة وهواجسها ومخاوفها وأشباحها وكل ما يكتنفها من إكراهات تكرّس الصورة، لتتكرر معها عذابات الأمهات الأزلية في رحلة بلوغها. تقول مرسال: "مثالية الأمومة في المتن الثقافي العام تسبب مزيدا من الشعور بالذنب عند هؤلاء الذين يشكّون في كنه هذه المثالية داخل تجربتهم الشخصية. إنها تقابل التعبير عن كل خبرة مختلفة بإدانة أخلاقية واجتماعية، ربما لهذا هناك ندرة في سرد خبرات الأمومة خارج المتن المتفق عليه". ومثل كتاب إيمان مرسال هذا، نستحضر كتاب "حليب أسود" لألِف شفق، عن الأمومة ورحلتها الصعبة، وهي رحلة تزداد صعوبة عندما تكون الأم كاتبة؛ لأن الأمومة "وظيفة" بنحو ما، والجمع بين الوظائف المتعددة مشقة مضاعفة.