أفكار وآراء

الصورة.. في القرآن

11 أبريل 2021
11 أبريل 2021

خميس بن راشد العدوي -

ها هي الإنسانية يحل عليها شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، ومن عادتي في كل سنة.. أخصصه لتدبر القرآن، محاولاً فهم كلمات الوحي بما هو أقرب إلى روحي، وبما أنني ملتزم بمقال أسبوعي للجريدة الغرّاء «عُمان»؛ فسأخصص خمسة مقالات تقرأ وجهًا من لغة القرآن، وهي لغة خاصة ينبغي أن تُقرأ كما هي، وأن تُفهم بما توحي به هي. ثم ينبغي التمييز بين النص الإلهي والفهم البشري له، وتدبر القرآن حق كفله الله للإنسان، لا سلطان لأحد على منعه، فهو تكريم للعقل الذي وهبه الله إياه.

في هذا المقال.. أحاول أن أقرأ «الصورة» في القرآن، وأقصد بها المشهد الذي يوحي به النص نفسه، قبل أن يطفئ ديناميكيتَه شرحُه، ويُفقد جمالَه البياني تفسيرُه، وقبل أن تشحب معانيه تحت مشارط تشريحه بالتأويل، الذي وقع من عمليات التفسير المتوالية، فخرج من كونه كتاب هداية يدفع إليها تأثيره الداخلي؛ إلى كتاب فنون متنوعة، لا يكاد يحصى عديدها، كالمعتقد والتاريخ والإعجاز واللغة والألسنة والأنسة، هي فنون مفيدة للمعرفة، لكنها تقصر عن طرق باب الهداية، فضلًا عن فتحه.

لم أجد لدى مَن عُني بالنص القرآني مَن حرر نظره مِن حُجُب التفسير التي تغشى العقل بسُتُرِ الجمود كما فعل سيد قطب، فقد استطاع أن يلامس روح النص القرآني، وأن يوقظ في القارئ الشعور بتذوق طراوة القرآن والتلذذ بنداوة هدايته والتفاعل مع حرارة توجيهاته. إلا أن قطب لم يتمكن من مواصلة الطريق، وأن يخلص للنص ذاته، وأن يفتح العقول أمام كلمات الله، التي لو وضعت على صلد الأفكار لكانت حية تسعى، كما فعل موسى مع العصا، لم يتمكن قطب من ذلك لغلبة الأدلجة عليه، فصار يصنع بمكنته البيانية من الصورة القرآنية الباهرة معتقدات «المفاصلة الشعورية واللاشعورية»، دخل بها في صراع مرير مع من ناوأهم وناوأوه، حتى أفضى بسببها إلى ربه، وترك الناس في نزاع مع أفكاره، وليته لم يقع فيما وقع فيه، وعاش بقلمه يردّ الناس إلى الاسترشاد بالهدي القرآني والتمتع بصوره الجميلة النضرة.

رغم الأثر العميق الذي تركه سيد قطب في إثارة فكري لقراءة القرآن بعيدًا عن ظلال التفسير وتكلّف التأويل وانتحال أرباب الفنون؛ إلا أنني لا أسلك مسلكه الذي لم يخلُ من حشو الصورة القرآنية بـ«صورة قطبية» تهدف إلى الحشد للجماعة التي ينادي بها، فلابد من التجرد من حمل النص على المعتقدات.

إن الصورة القرآنية آخذة بالألباب بذاتها، من أثر النفخة العلوية التي تسري في حروفها ولغتها، وفي أسلوبها وبيانها، وفي مراميها القريبة وغاياتها البعيدة، ولا زلت أؤكد أن القرآن بيّن بنفسه، وعلى حد قول ابن بركة البَهلوي (القرآن دليل بنفسه). والصورة.. في القرآن متعددة الأبعاد بتعدد أحوال النفس الإنسانية، وهذا ليس حصرًا على آيات الأمثال والمواعظ، التي من وظيفتها استثارة الوجدان وتحريض العاطفة، وإنما هو ظاهرة قرآنية عامة، حتى فيما نخال من طبيعته الثبات كالشعائر، أو يراد له التحديد كالأحكام.

فقول الله: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)، مشهد يصوّر حال آكلي الربا، فأنت ترى صورة آكله يتخبط كتخبط من أصابه الشيطان بمس. هذه هي الصورة، حية متحركة في ذهن القارئ، ترى الشيطان وهو يخبط يمنة ويسرة بمَن يمسه، فيتحول المشهد إلى تخبط آكل الربا، ورغم أنك لم ترَ الشيطان بعينيك، إلا أن صورته حاضرة وبقوة، وأي تصور للشيطان يدور في خيالك فلن يؤثر على حيوية الصورة، إنها صور تهز الكيان، فنحن نرى فعلها ونسمع حركتها، وتكاد «تنفطر القلوب» لحال آكل الربا البائس وهو يتردى من التخبط.

ولننظر إلى قول الله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، هذا حكم في المطلقات، والأحكام قد يراها الكثيرون بأنها تستلزم نصًا حاسمًا غير قابل للتأويل، ولو أردنا أن نصيغها كحكم تشريعي لكانت مثلًا: (المطلقة تنتظر ثلاثة أشهر، وعليها أن تخبر بما في بطنها إن حملت)، حكم جاف تلتغي منه الصورة تمامًا. ولكن لننظر إلى المشهد القرآني الآسر: مطلقات -وليست مطلقة واحدة- ينتظرن حالة قادمة، وهي الحمل، الذي قد يقع أو لا يقع، فهنَّ في «تربّص»، تتحرك الصورة في أذهاننا؛ إما بضجيج النسوة المطلقات، وهنَّ يشتكين لبعضهن البعض ما وقع لهنَّ، وما ينتظرهنَّ كذلك، وقد نسمع شيئًا من حديث العُشْرة الاجتماعية في بيت الزوجية. وربما نراهنَّ في حالة ترقب صامت وجل، فرغم أن من عادة الناس الحديث والشكوى، ولكن لوقوع هذا الحدث الجلل في حياة النسوة أخرس ألسنتهنَّ، وهنَّ بانتظار المستقبل الذي قد يحدده «مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ». أو ربما مشهد آخر يراه القارئ بما يعكس حالته النفسية والاجتماعية. ثم الزمن في المشهد يتحول من مجرد رقم صامت إلى «قروء» تسيل الصورة بها زمنيًا، حتى وإن تأرجحت دلالة اللفظ في الذهن بأكثر من معنى، فالتأرجح ذاته منشئٌ للحركة.

ثم يأتي التعبير الدافق بالحياة: «مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ»، لم يقل -مثلاً- جنينًا، فهو لا يريد أن يثبّت الصورة على وجه واحد فاتر، وإنما يفسح الشاشة أمام المخيلة لذلك المكنون في الرحم، والأرحام ذاتها تحمل معنى الوشائج النابضة، التي تكاد ترى آصرتها وهي تشد الإنسان إلى أصله منذ لحظة تشكله الأولى، التي هي كذلك مستكن الرحمة، نعم.. الرحمة التي تذكرك بالله الرحمن الرحيم، وهو تذكير مربوط باستحضار اليوم الآخر الذي يوقظ الضمير ويجعله مشدودًا إلى الله. إنك ترى الصورة وهي تتنامى من لحظة الطلاق؛ التي تنطلق فيها المرأة بأسى من مستقر الزوجية وهي في «تربّص» لمآلها، حتى ساعة حضور اليوم الآخر؛ بكل ما ورد به الوصف القرآني من مشاهد يوم القيامة.

وفي الشعائر.. لنتأمل قول الله في الصلاة: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً)، وهي صورة تسبق ناظريك بالحركة، الصلاة التي من طبيعتها أنها ساكنة، ولا تسمع منها إلا همسًا، تتحول إلى صورة ملحمية، صلاة تؤدى وسط قعقعة المعركة وصليل السيوف وتلاحم الجنود، صف يصلي، وصف يحرس صف المصلين، ثم في وسط الصلاة يتبادل الصفان مواقعهم برتم عسكري منضبط، وقائدهم الذي يقيم لهم الصلاة موصول بالله، الصورة وحدها تهز كيانك، فما بالك لو صليت معهم وأنت في مواجهة العدو، لتحول كل ذرة في كيانك إلى طاقة معنوية لا تقهر.

ويقول الله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ)، صورة عجيبة لهذا الصنف من البشر، هل ترى «أنصاف العلم»؟ هل تراهم وهم يتأبطون «نصيبًا من الكتاب»؟ لكن إلى أين هم ذاهبون؟ إنهم متجهون إلى شراء الضلالة، لا يكفي أنهم يتجهون للضلالة، بل يبذلون «أموالهم» ليشتروها، فتتعالى أصواتهم بالمزايدة ليظفروا بصفقة خاسرة، أي حمق هذا. أن ترى أناسًا يضلون لشهوة نفس أو عمى بصيرة؛ فهذا بذاته مشهد منفّر، ولكن أن تراهم ينساقون لشراء الضلالة، تقف مشدوهًا أمام هذا التصرف الأرعن.

هذه الصورة التي أقصدها في القرآن، وهي ما أرجو أن أبرزها في بعض الشخصيات التي تحدث عنها القرآن، والتي جاء ليصوغ بها العقل المسلم.