أفكار وآراء

«عوام الناس» .. ذهب المعنى وبقي المصطلح

11 أبريل 2021
11 أبريل 2021

أحمد بن سالم الفلاحي -

يشكل مصطلح «عوام الناس» في الذاكرة الجمعية أهمية خاصة، وينظر إليه بالكثير من الاهتمام، نظرًا لما يشكله هذا الحشد المترامي من الناس على امتداد خارطة المجتمع، ربما لا يكون هناك جذر معرفي لـ«عوام الناس» فمن خلال بحثي المتواضع وجدت معنى كلمة «عوام» هي عامة الناس، ويقف الشرح عند هذا الحد فقط، ولا يزيد، وبغض النظر عن جذره المعرفي غير المؤصل في التعريف، فهو مصطلح معروف، وتستحضره الذاكرة الجمعية كلما تصدر مصطلح «عوام الناس» مجموعة الأحاديث المثارة هنا أو هناك حول قضايا المجتمع المختلفة.

يتعمق المعنى الاجتماعي لإشكالية «عوام الناس» ربما أكثر من المعنى الدلالي للمصطلح، وقد تتسع الرؤية هنا أكثر، ذلك أن «عوام الناس» امتداد لا نهائي من البشر في كل مجتمع، فالخواص يظلون قليلين، قياسا بعدد العوام في المجتمع، فوق ذلك أن الـ«عوام» يكون هو الامتداد الطبيعي للمجتمع، أما الخواص فيحتاج إلى كثير من التحديد، والتعريف، والتصنيف، والتصنيف هنا ليس يسيرا، حيث تحده شروط كثيرة يعرفها أبناء المجتمع الواحد في كل بيئة اجتماعية على حدة، ومن هنا يبقى الخواص قليلين، قياسا بالعوام، ومع ذلك يمكن أن يحقق أحد العوام من الناس شروط الخواص، وينتقل إلى مستواهم، سواء في تصنيف المعرفة، أو تصنيف الوجاهة، أو تصنيف المناصب الإدارية - في العصر الحديث - أو تصنيف الغنى في امتلاك المال، أو الانتساب إلى أسر من فئات الـ«خواص» ويكتسب في المقابل هذا المستوى الاجتماعي الجديد، وعليه أن يجاهد كثيرًا لكي يبقى في فئته الجديدة، وإلا قد يعود أدراجه إلى فئته الأصل «عوام الناس» ذات القاعدة العريضة المؤسسة لكل فئات المجتمع.

حتى عهد قريب كانت هناك مفارقة موضوعية ملموسة، إلى حد كبير، بين عوام الناس، وخاصتهم، وعد ذلك حالة تراتبية تعيشها كل المجتمعات الإنسانية، وتآلف الناس مع هذا الوضع، واستسلم له البعض إلى حد التماهي عن حقيقة الشخصية الإنسانية وانتصارها لذاتها، على الأقل، في كل ما يلمس خصوصيتها القريبة جدا على مستوى الحرية الخاصة التي للفرد فيها اليد الطولى في كل ما يتعلق بشؤونه وشؤون خاصته، وكأن هؤلاء العامة من الناس ولدوا هكذا «عبيدا» للخواص من أفراد المجتمع، أو تنسب إليهم كل رذيلة، أو كل سلوك يبدو في ظاهره التواضع، ولا يمثل أي قيمة معنوية أو مادية، وقد يرد حقيقة هذه الصورة في أغلب الأمر على حالتي الفقر والجهل المنتشرة بين أفراد المجتمعات صغيرها وكبيرها في تلك الحقب والدهور التي مرت على البشرية، وهي تتلقى البدايات الأولى لعمر المعرفة، ولذلك كانت صورة الـ«عوام» واضحة، ولا تحتاج إلى كثير من الجهد لتبيان ملامحها الاجتماعية، والفردية، ومن فرط الاستسلام لها، تشربها الناس، كظاهرة اجتماعية في مجتمعاتهم الإنسانية بخصائصها الإنسانية على وجه التحديد، عدوها ميزة اجتماعية، والخروج عنها قد يكلفهم الكثير من متطلبات الحياة اليومية، والتي كانوا في غنى عنها، لأنهم بـ«عموميتهم» يقتاتون على ما تبقى من إنسانيتهم المهدرة على الأرصفة، وهذا شكل ملمحًا اجتماعيًا لكثير من المجتمعات والتي تنقلها المصادر على أنها جانب من جوانب الحياة الاجتماعية في تلك العصور القديمة التي حفلت بالكثير من صور الحالة التي كان عليها الـ«عوام» من الناس في المجتمع، صغر هذا المجتمع أو كبر.

تأتي المصطلحات الحديثة اليوم كـ«عقلية القطيع» أو الـ«دهماء» أو «الرأي العام» أو «الحشد» لتشير إشارة ضمنية إلى هذا القطاع العريض من «عوام الناس» ولكن المسألة هنا، في فهمهما الحديث، تخرج عن سياق صورتها النمطية من «عوام الناس» الذين كان توظيفهم التوظيف المتواضع البسيط، وتسيير دفتهم نحو خدمة أهداف لمصالح غيرهم، إلى صورة دينامكية مختلفة وبمفاهيم غير تقليدية، وبفعل منجز له ثقله الفني على أرض الواقع، وبتأثيره الموضوعي من جملة المنجزات التي يحققها أبناء المجتمع، وبالتالي، فاليوم، قبله من الأمس، لم يعد «عوام الناس» الاسم والفعل، ينظر إليه بتلك النظرة الدونية، والفعل المتواضع، وإنما بالكثير من التقدير، فهو الذي يقود الحراك التنموي في كل المجالات بلا استثناء، وبالفعل المنجز النوعي بلا منافس، وتأتي اليوم وسائل التواصل الاجتماعي لتضع حقيقة «عوام الناس» على مفترق الطرق في صناعة الفارق، فلم تعد «عقلية القطيع» تلك الصورة المقودة بكل استسلام، بل أصبح هناك رأي، وهناك فعل، وهناك صياغات نوعية في التأثير حتى على القرار الرسمي، بل أصبح النظر إلى الرأي العام الذي تفرزه «عقلية القطيع» أو «عوام الناس» يأتي في أول قائمة الاهتمامات الرسمية، وينظر إليه بالكثير من التقدير، والاهتمام.

السؤال هنا، هل استطاعت الدولة المدنية أن تجتاز «عنق الزجاجة» في تخطي مثلبة «عوام الناس» من تقييم متواضع، إلى تقييم أدق موضوعية، وترتقي بهذا الفرد من مستويات القوى السلبية غير الفاعلة في المجتمع إلى الانضواء في المشروع الوطني الكبير؟ وما هي معززات هذا الانتقال السلس التي لم تكن حكرا على أحد دون آخر؟ وإلى أي حد تفاعل «عوام الناس» مع هذه الهدية التنموية، ووظفوها التوظيف الحسن للارتقاء بالوطن؟ وكيف استفادت الأوطان من فتح هذه النوافذ التي كانت مغلقة بفعل عوامل كثيرة، أغلبها اجتماعية بحتة؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة المتشعبة، يمكن القول، اجتهادا، وذلك من خلال قراءة الواقع قراءة واعية، ومعايشة عن كثب لمجمل التحولات التي تشهدها المجتمعات الإنسانية، وهي: أن الدولة المدنية الحديثة أفرزت الكثير من معززات التنمية الحديثة، يأتي في مقدمتها انتشار التعليم، والاهتمام بالرعاية الاجتماعية، والصحية، وتوفير الوظائف في القطاعين العام والخاص، وفتح مجالات الاستثمار في مختلف القطاعات الإنتاجية لأي فرد عنده الاستطاعة لأن يدخل في مشروعات اقتصادية، سواء ممولة من قبل الحكومة، كخطوة تأسيسية، أو من خلال القدرة على التمويل الكامل للمشروع من قبل الفرد، وغيرها من معززات التنمية الفردية التي استطاع من خلالها الأفراد إلى التحرر الاقتصادي - المداخيل المادية المتنوعة - وإلى التحرر الاجتماعي - الاستقلالية الفردية من خلال نشوء الأسر النووية - وإلى التحرر الثقافي - من خلال امتلاك المعرفة، من ناحية، والسهولة في الحصول على المعرفة من ناحية ثانية، مما أهّل الفرد العادي «عوام الناس» إلى التفريق بين الخطأ والصواب، والقدرة على البحث والتعمق في ذات المعرفة، دون الرجوع إلى المتخصص، إلا في الحدود الضيقة جدا، وجلها المتعلقة المتخصصة بالجوانب الفنية الدقيقة، وبالجوانب الدينية العميقة، وهذا الواقع أدى إلى وجود أو نشوء طبقة اجتماعية جديدة أطلق عليها الطبقة الوسطى، أو ما تسمى بطبقة الـ«تكنوقراط» والتي تضم الغالبية العظمى من «عوام الناس» مدعمة بطبقة العمال ذات القاعدة العريضة في المجتمعات، وقد نظر إلى أفراد هذه الطبقة بالكثير من الاهتمام، وبالكثير من التقدير، وذلك نظير مساهمتهم النوعية الكبيرة في مشروعات التنموية المختلفة، سواء لحسابهم الخاص، أو لمشروع الوطن العام الكبير، الذي يستوعب كل الأنشطة، وكل القوى الفاعلة فيه.

تشكل المعرفة أكبر ممول للانتقال من فئة «عوام الناس» إلى فئة «خواص الناس» وخاصة في المجتمعات القادرة على التحرر من كثير من الصور النمطية التي آمن بها أفراد المجتمع في تصنيف فئاتهم الاجتماعية المختلفة، ومتى استطاع هذا الفرد امتلاك شيء من المعرفة، أهّله ذلك لأن يرتقي، وفق تقييم أبناء المجتمع، إلى الفئة التالية من فئات المجتمع، وهذا أمر ليس يسيرًا إطلاقًا، لأنه يحتاج إلى كثير من المقومات المعنوية، التي ليس باستطاعة أي أحد امتلاكها بسهولة ويسر، بخلاف المعززات المادية الأخرى، التي يستطيع الفرد بجهده الميكانيكي البحت، أن ينجزا قدرا معقولا من الإنتاج ليرتقي بوضعه الاجتماعي.

وأختم هنا بمقولة تنسب إلى عمرو بن بحر الجاحظ قوله: «وإذا سمعتموني أذكر العوامّ فإني لست أعني الفلاحين والحشوة والصناع والباعة» ثم يقول: «وأما العوام من أهل ملتنا ودعوتنا، ولغتنا وأدبنا وأخلاقنا، فالطبقة التي عقولها وأخلاقها فوق تلك الأمم ولم يبلغوا منزلة الخاصة منا».

كاتب صحفي