أفكار وآراء

أنســاغ :بطونٌ منتفخة، أمعاءٌ خاوية: «نُمُّوٌ» بلا «تطوُّر» في أمريكا اللاتينيَّة «4»

06 أبريل 2021
06 أبريل 2021

عبدالله حبيب -

«ليست الثورة مَوْزَة أو حبَّة طماطم تصدِّرها أو تستوردها»

--الروائي المكسيكي كارلُس فونتِس متحدثا في الفيلم الوثائقي «الأرجنتين: الصمت المكسور» لِفِكْتُر فرِدمَن--

كتبتُ في الحلقة السابقة من هذه الـ«أنساغ» عن جذور وخلفيات الموقف الموثَّق تاريخيَّاً الذي اتخذته الولايات المتحدة الأمريكيَّة إزاء جارتها أمريكا اللاتينيَّة (كما في حالة سيئة الصيت «عقيدة مونرو» التي تمَّت هندستها وصياغتها في عام 1832، والتي كان الغرض منها إقصاء القوى الكولونياليَّة الأوروبيَّة الكلاسيكيَّة الإسبان والبرتغاليين بصورة أكثر تخصيصاً-- من أي تأثير مباشر هناك). وقد عبَّر ذلك الموقف الأمريكي عن نفسه بالانحياز الكامل إلى معسكر الأنظمة القمعيَّة (وحين استخدم مفردة «قمعيَّة» فأنا لا أجيء بها من عاطفتي الشخصيَّة ومواقفي الفكريَّة/ السياسيَّة الذاتيَّة، بل إن تلك الأنظمة كانت «قمعيَّة» بصورة لا مواربة فيها، ولا حياء ولا خجل، إن بتجربة الشعوب الرازحة تحت نير تلك الأنظمة، وإن بالمقاييس والأعراف الدوليَّة، بل حتى وإن بمفاهيم ومقولات المؤسسات الدستوريَّة والقانونيَّة الأمريكيَّة نفسها). لقد ترجم الموقف الأمريكي نفسه عبر برنامج تقديم «المساعدات» العسكريَّة لبعض من أسوأ الأنظمة الديكتاتورية والعسكريَّة هناك.

والحقيقة انه حين لم تكن «المساعدات» العسكريَّة السخيَّة التي قدمتها الولايات المتحدة كافية للحفاظ على البنية الاقتصادية والاجتماعية الجائرة، فإن الحكومة الأمريكية في إداراتها المتعاقبة، كما في حالة إدارة الرئيس آيزِنهاوَر، لم تجد أدنى حرج في أن تقوم فعليَّاً بهندسة غزوٍ من تدريبٍ، وتسليحٍ، وتقديم «لوجستيَّات»، وبقيادة وكالة المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة بغرض الإطاحة بنظام وطنيٍّ وديمقراطي مدعوم شعبيَّاً سعى إلى تنفيذ إصلاحات اقتصادية واجتماعيَّة واسعة في غواتيمالا في عام 1954. وقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية بذلك لغرض حماية مصالح مقيتة الصيت «شركة الفواكه المتحدة» الأمريكيَّة التي كانت تمُصُّ عَرَق ودم المزارعين هناك بأسوأ مما يفعله الفاضل/ دراكولا شخصيَّاً.

لكن في عام 1958 استجد ذلك الزلزال الكبير والمهيب، والحدث الجليل المجيد في ذاكرة أمريكا اللاتينيَّة، والذي سيبقى ممهورا في وجدانها وعاطفتها إلى الأبد، والذي هو، في الآن عينه، أسوأ من أسوأ الجواثيم والكوابيس في حسابات واستقراءات الدوائر السياسيَّة والاستخباريَّة الأمريكيَّة: لقد انتصرت الثورة الكوبيَّة بقوة الإرادة والسلاح، وبدأ عصر «الحالمين المجانين» الذين ابتاعوا يختاً صغيراً متهالكاً (اسمه «غراما») ثم حمّلوه بثلاثة أضعاف طاقته القصوى من الرجال والسلاح وأبحروا في ليلة عاصفة من المكسيك لتحرير كوبا من أمثال راؤول كاسترو، وفيديل كاسترو، وتشي غيفارا، وكاميلو سونفيغوس (الشهيد العظيم للثورة الكوبيَّة الذي لم ينل، في تقديري الشخصي المتواضع، ما يليق به من تذكار)، وصارت «الأرض تهتز» (إذا ما كان في وسع المرء استعارة عنوان الفيلم الشهير لِلوتشيانو فيسكونتي) تحت أقدام «الآباء المؤسِّسين» في الشمال الأمريكي، حيث أطيح بنظام فُلخينسيو باتيستا الذي لم يكن لمثل فساده وعمالته شبيه في تلك الأرجاء. يكفي القول انه وأفراد زمرته الملطَّخَة بالفساد قلوبهم قبل حساباتهم المصرفيَّة كانت لهم حصص حتى في المباغي والمواخير التي تستعبد وتهين أجساد الفتيات الريفيَّات الصغيرات من بنات شعبه، هذا ناهيكم عن أن رأس المال الأمريكي كان يملك أكثر من 90٪ من المناجم في بلاده. لقد كان سقوط نظام باتيستا (وللتأكيد مرة أخرى، وهذا هو الأهم في تلك الحقبة: بقوة السلاح) حدثاً تاريخيَّاً بكافة المقاييس، وفعلاً ثوريَّاً، وإنسانيَّاً، وأخلاقيَّاً جعل الأحلام الأمريكيَّة اللاتينيَّة تدنو أكثر وأكثر من القطاف للمتعطِّشين إليها.

إذاً، فإنه مع انتصار الثورة الكوبيَّة كان من الواضح أن سياسة «القبضة الحديديَّة» التي كانت الولايات المتحدة تحاول إحكامها حول كل مفاصل الحياة في أمريكا اللاتينيَّة لا يمكن أن تكون ناجحة دوما أمام مشاعر السخط الشعبي العارم والتوق الجماهيري للتغيير، والعدالة، والحرية، والتطور ولو بقوة السلاح. لذلك سارعت القبضة الأمريكيَّة الحديديَّة إلى ارتداء قفَّازات «المساعدة الاقتصاديَّة» هذه المرة؛ فتم في عهد الرئيس الأمريكي جون كينيدي تأسيس «التحالف من أجل التقدم» في عام 1961؛ حيث تعهدت حكومة الولايات بتقديم مبلغ عشرين بليون دولار أمريكي لبرامج دعم الاقتصاد، والتطوير الاجتماعي والسياسي على مدار عشر سنوات (وبالمناسبة، ذلك المبلغ الضخم لا يعني، في الحقيقة، أكثر من عشرة دولارات فحسب لكل مواطن في أمريكا اللاتينيَّة حسب المعطيات السكانيَّة عهدذاك)!. والأسوأ من ذلك انه، بقسمة ضيزى، سيكون على ميزانيَّات بلدان أمريكا اللاتينيَّة تقديم مبلغ ثمانين بليون دولار أمريكي بالتمام والكمال لنفس الفترة. في حقيقة الأمر لم يكن لدى التحالف ما يقدمه سوى قرص «أدول» منتهي الصلاحية لمصاب بورم سرطاني خبيث.

زِدْ إلى ذلك انه، ومن الناحية الجوهريَّة، كانت في أجندة هذا «التحالف» بنود غير معلنة تجعله أقل إحساناً وحُبَّاً للخير والمعروف والأجر لدى الصالحين في البيت الأبيض حتى ولو بصورة رمزية مما يبدو الأمر عليه للوهلة الأولى؛ ذلك أن «التحالف» كان مرامه بعيد المدى هو سحب البساط من تحت أقدام التغييرات الراديكاليَّة القادمة لا محالة والوعي الثوري الملتهب الذي كان يجتاح المنطقة الأمريكيَّة اللاتينيَّة بما تعيشه من فقر مدقع، وقمع عارٍ، ونسبة مخيفة من البطالة، خاصة في أوساط الشَّابَّات والشباب من مُخرجات الجامعات والمعاهد التقنية والاختصاصية في مرحلة ما بعد الدبلوم العام. لقد كان المقصود هو «تجفيف الماء من تحتك» وليس «صب الماء في فمك»، إذا ما جاز القول.

لكن حتى لو سلَّمنا جدلا أن ذلك «التحالف» كان «استثناءً للقاعدة» فيما يخص سياسات الولايات المتحدة نحو أمريكا اللاتينية، فإن الأمثلة على «القاعدة» كثيرة حتى ليحار المرء كم وأي منها سيختار، وكم وأي منها سينحّي جانباً، وذلك من أجل إثبات أن الأصل هو نهج أمريكي إمبريالي واضح. دعونا نستعرض بعض تلك الأمثلة على عجل.

في البرازيل، على سبيل المثال لا الحصر، ساهمت وكالة الاستخبارات المركزيَّة الأمريكيَّة، جنبا إلى جنب مع وكالات أمريكية أخرى بالتآمر ضد نظام جواو غوارتش، لغير ما سبب سوى انه بدأ في تطبيق نظام ضرائب يراعي ذوي الدخل المحدود والإمكانات الاقتصاديَّة المحدودة، كما دشَّن حملة واسعة لمحو الأميَّة (أنفق عليها 15٪ من الميزانية السنويَّة للبلاد، هذا بالطبع إضافة إلى مخصصات التعليم العام والعالي المُدْرَجة أصلا في النفقات المعتمدَة لميزانيَّة الدولة)، هذا مع منح الأميّين الحق في التصويت، كما أطلق برنامجا واسعا لإعادة توزيع عادل للأراضي في بلاد كان فيها عدد السكان في الأرياف يفوق عدد القاطنين في المدن. ولهذا أطاح به انقلاب عسكري مدعوم بنسبة 100٪ (للأمانة: النسبة المئوية الأدق هي 101٪ ) من قِبل الولايات المتحدة في عام 1964. ويا ترى، أيضا، هل من المجدي في شيء أن يتساءل المرء بأقصى طاقة ممكنة من البراءة: ألم يكن الرئيس الأمريكي جون كينيدي (صاحب برنامج «التحالف من أجل التقدم») نفسه هو من بدأ بإغداق الدعم على المؤسسة العسكرية الفاشيَّة رسميَّا في أمريكا اللاتينيَّة (من يستطيع أن ينسى الجنرال أغوستو بينوشيه المسؤول عن تعذيب، وذبح، واختفاء، واغتصاب عشرات الآلاف من أبناء بلده)؟، والأحزاب اليمينيَّة المتطرفة، ورجال السياسة والدين الفاسدين المناوئين لنظام الرئيس المنتخَب ديمقراطيَّاً عبر صناديق الاقتراع سلفادور أَيِنْدي (أليندي) في تشيلي، والذي عُثر على جثته تحت أنقاض القصر الرئاسي الذي دكَّته الطائرات الحربيَّة الأمريكيَّة (من ميزانيَّة «المساعدات» العسكريَّة عينها) وهو يحمل يا للأمثولة التاريخيَّة -- رشّاشا من نوع -47 وقد نفد مخزنه الناري كان فيديل كاسترو لا غيره قد أهداه إياه؟. هذا وللمادة تكملة في الأسبوع القادم.