أفكار وآراء

بؤس العقل

28 مارس 2021
28 مارس 2021

خميس بن راشد العدوي

«بؤس العقل».. مقال ليس مادحاً ولا قادحاً، إنما يحاول قراءة العقل كما هو، دون توجه فلسفي، ولا حمولة أيديولوجية، بل هو أقرب إلى تعرية الأدلجة التي نسجت حول العقل. والسؤال: إن كان المقال لا يروم التنقيص من شأن العقل، فلماذا الحديث عن بؤسه؟ الجواب: على أقل تقدير بحسب تأملي.. هذه طبيعته، فلا يمكن للعقل أن يعيش إلا في حالة بؤس، والبؤس.. لا يعني الانسداد في الإنتاج والإبداع، وإنما المعاناة التي لا نهاية لها؛ ومنها عدم الرضى بمنتجاته.

العقل عظيم.. ولا شيء بشرياً يحدث خارج نطاقه مطلقاً، هو أداة التفكير الذي ينبثق منه العمل؛ فاللغة والمعتقدات والأساطير والفلسفة والاختراعات والعمران والعلاقات البشرية والنظرة للكون؛ كلها فيض من العقل. وبه عُرِفَ الله. ولولا العقل لم يدرك الإنسان نفسه؛ فضلاً أن يدرك غيره، ولم يعتره الحزن والفرح، أو يشعر بالصحة والمرض، أو بالانتقال من شبابه إلى هرمه، ولم يميّز بين الحياة والموت. إنه الحقيقة الوجودية للإنسان، وإلا لكان عدمياً؛ لا قيمة لوجوده أبداً. ولذلك.. كان العقل أعظم خَلْق الله إطلاقاً، حتى الحياة التي يقوم عليها العقل؛ لا معنى لها بدونه. بيد أن كل هذا لم يسعفه أن يسلم من البؤس الأبدي.

أولى حالات البؤس.. إنه -غالباً- لا يشعر ببؤسه، فكل ما أورده هنا يمكن للعقل أن يردّه، وألّا يسلّم به، بل قد يعتبره تألقاً ولذة وسعادة، ولست أنكر ذلك، ولكنه لا ينفي عن العقل بؤسه، بل هذا من بُؤَره المعتمة، فهل أشد بؤساً من شعور الإنسان بلذة وهو يتمرغ في مراغة البؤس.

ثم.. دعونا نتصور إنساناً يبني بيتاً، فإذا أثثه وزخرفه؛ أخذ في نقضه لبنة لبنة، حتى يساوي به الأرض، ليشيد مرة أخرى بيتاً جديداً، ثم بعد اكتماله يهدمه، فهو كل حياته بين بناء وهدم، لا يستطيع عن ذلك فكاكاً، فما أتعس هذا الإنسان، لا شيء يعجبه، ولا وقت يستريح فيه. هكذا هو حال العقل.. يعاني من بؤس الدَّور، فما أن يبني له بنياناً معرفياً حتى ينقضه ليبني آخر، وما أن يبتكر منهجاً في التفكير إلا ويكتشف بعد حين عدم صالحه لمعطيات العلم، ليشرع في بناء منهج آخر، إنه الدَّور الأبدي.. الانتحار لأجل الحياة التي تسلمه للانتحار.

يرى العقل في الإيمان مستقرّه ومستودعه، فيزعجه هذا اليقين، فينقض غزله بعد قوة أنكاثاً، حتى ينكشف لعراء الإلحاد، فيرى فيه متنفسه، ثم تطيح به رياح العدمية؛ فلا يرى للوجود معنى، فيستخف به فيعتنق العبثية مذهباً، فتدهمه أسئلة لا نهاية لها، فيصبح مكبلاً بالبحث عن أجوبة لها، ولا يخرجه من ذلك إلا أن يكون برجماتياً في حياته، ولا يلتفت كثيراً للتنظير والبحث عن الأجوبة الهلامية. ثم يعود للإيمان؛ لتبدأ رحلته من جديد، كطائر الفينيق يحترق لينهض من رماده، فيطير نحو المحرقة.

النهم المعرفي.. مصدر آخر للبؤس، لا تأتي على العقل لحظة يشعر فيها بالارتواء، وكلما تعلّم تنفتح له أبواب لا تحصى من الجهل والتساؤل والفضول، كأنما يَعُبّ أجاجاً. وليس أكثر ضبابية للرؤية من استمرار تفتّح النوافذ أمام العقل، ومع ذلك.. لا يكفّ عن فتح مزيد منها، لينداح أمام صحراء المتاهة.

العقل.. يعاني من حالة مزمنة من التناقض المربك، فمع أنه يعزّي نفسه في تناقضه بالتطور والتنوع، إلا أن ذلك لا يغيّر من الواقع شيئاً. فهو في تناقض داخلي؛ أي أن العقل ذاته يعيش هذه الحالة، فما أن يرسو على فكرة حتى تقتلعها أخرى. وقد يعتبرها البعض «جدلاً هيجلياً» لأجل توالد الأفكار واستمرار الحياة، وهذا صحيح، إلا أنه كذلك.. كمَن يحمل ثقلاً لينزله عن كاهله فيحمل ثقلاً آخر، لا لشيء إلا لأنه موعود باكتمال عمله أن يتحرر، فصدّق البائس المسكين، ولم يفطن بأنه سيقوم بذلك أبد الآبدين، ولن يحصل على حريته.

والعقل.. كذلك هو في تناقض خارجي؛ أي مع سائر العقول، فانظر إلى مرارة البؤس عندما لا تجد في الحياة إلا النقيض، تصبح على النقيض لكي تمسي عليه، وتمسي على النقيض لكي تصبح عليه، ثم تنظر إلى ما انتجه العقل من فعل حضاري مبهر، فلا تجده إلا ناتج التناقض المرهق الذي سكعت فيه العقول، ولم تستطع أن تخرج من مستنقعه.

وهذا التناقض لم يقف عند حدّ؛ حتى أسلم العقلَ إلى التنافس الدامي، فالحروب التي نشأت كانت بسبب التناقض، وما نراه من حضارات قديمة وحديثة؛ هو نتاج سلطة العقل المهيمنة على نقيضها من سلطات العقول، ولو لم يشتغل العقل ببناء هذه الحضارات لربما كان أسعد حالاً من اللبث في أحقاب البؤس، ولو كُشِف للإنسان ما فعله العقل من فضائع زمن العبودية والاقطاع؛ لمات كمداً من الحياة البائسة التي عاشها قطاع كبير من البشر. ولِمَ نذهب بعيداً؟ فما فعلته الشيوعية بالبشرية من سحق ومحق لا يزال حاضراً لدينا، بل إننا نعيش الرأسمالية المتوحشة التي تحرق الأعصاب وتقطّع الأوصال وتشعل نار الأنانية، فيا للعقل البائس الذي أدخلته تناقضاته في هذا الجحيم.

وها هو العقل يتنكر لعلومه ومعارفه السابقة، التي كان يعتبرها علماً وفلسفةً وديناً؛ فإذا به ينعتها بالأساطير والخرافات والأوهام، ويزدري كل ذلك التاريخ المجيد، ويجعل دونه ردماً، ظاناً أنه قد وصل إلى عصر الاستنارة، ويتمتع بملذات الحياة، ولن يدوم طويلاً حتى يَصِم كل هذا بما وَصَم به تأريخه الأقدم، مدعياً كلَّ مرة أنه وصل إلى الوعي، وما هو بالوعي؛ إن هو إلا بؤس خفي سيعيه بعد حين.

والعقل.. يذوب كالثلج، فإنتاجه لا يدوم، أفكار تخلفها أفكار، في دوامة مضنية، فكل العلوم التي انتجها يأتي عليها وقت تصبح غير قادرة على الصمود، فقد كان يعتقد أن معارفه مقدسة خالدة، فإذا هي سراب بقيعة في دهناء الوهم، فيرفضها لأنه وصل إلى عصر العلم الذي اكتشف فيه اليقين، ولكن يا لصدمة العقل، سرعان ما يعرف بأن يقينه في العلم قد ذاب، بل هي النسبية المحضة. وحتى هذه النسبية الأينشتاينية بدأ «الفوتون الرقمي» يهدّ أركانها؛ نعم.. الفوتون الذي طوّر مفهومه أينشتاين ذاته -وليس غيره- في ظل نسبيته.

وهذا الذوبان.. في كل منتَج عقلي، بما في ذلك ما نراه أصلب الأشياء، فالعمران يطوّح به عمران، فمن الكهف الذي يحتمي فيه من غضب الطبيعة، إلى عيدان يتقي بها الحرّ والقرّ، ثم نحت من الجبال بيتاً فارهاً، ليكتشف أن الطين أسهل في تشكيله من جلاميد صماء، فيتخذ منه قصوراً، ولا يكاد يأوي إلى رحله؛ حتى يستبدله ببيت اسمنتي، فبيت زجاجي، ثم بعد كل هذه الرحلة الشاقة؛ ينظر العقل فيما فعل، فيجد كل ذلك عناء؛ فيبدأ بطبع بيت «ثلاثي الأبعاد»، وهكذا يستمر عدم رضى العقل عن حاله.

إنها حالة مزعجة.. لا تُمكِّن العقل من تخليد مقولاته، إلا تحت ستار الدين، فينسب مقولاته إلى الله؛ لعله يؤويها إلى ركن شديد فتبقى، إلا أن بؤسه لا يرضى أن يغادره، فيقيم البراهين بأنها ليست من عند الله، ويضع كل قدرته ليثبت بأنها منتحلة.

ولا سبيل لهروب العقل من بؤسه؛ الذي لم يتركه حياً فيهنأ، ولم يسلمه للموت فيتلاشى، فيجترع الخمر ويبتلع المخدرات، فيزداد شقاءً إلى شقائه، فيصيبه الجنون والأمراض النفسية والعقلية. وحتى هيامه بالأدب والفن والموسيقى؛ إنما ليخرج من وطأة الحياة التي اصطنعها فسحقته، وهيهات هيهات أن يخرج من بؤسه السادر، فكلما أراد الخروج من غمّه أعيد فيه.