سليمان المعمري
سليمان المعمري
أعمدة

"دلشاد" والتعاطي مع التاريخ

27 مارس 2021
27 مارس 2021

سليمان المعمري

نقاط جذب عديدة في "رواية" دلشاد" للروائية العمانية بشرى خلفان الصادرة حديثًا عن منشورات تكوين الكويتية، لكني سأحصرها هنا – نظرًا لضيق المساحة- بالحديث عن تعاطيها مع التاريخ. إذْ نجحت هذه الرواية من وجهة نظري في تذويب المادة التاريخية في نسيج العمل الروائي، والإفلات بالتالي من فخاخ التاريخ ومزالقه التي لطالما أصابت روايات عربية أخرى فرهَّلتْها وحرَفتْ بوصلتها عن الفنّ لتحيلها ناحية التوثيق والتسجيل، أو باتجاه الخطابية المباشرة والتقريرية الفجة. هذا الانحراف يحدث عادة لدى الروائي غير المتسلح بأدوات فنه، أما الروائيون الجيدون فمن ميزاتهم أنهم يخلقون شخصيات تقتل شخصيات التاريخ كما يخبرنا الروائي الفرنسي إلكسندر دوما الأب، الذي يعزو ذلك إلى أن المؤرخين يكتفون بالحديث عن أشباح، فيما يخلق الروائيون أشخاصًا من لحم ودم. وهذا ما نجحتْ فيه بشرى بالضبط.

جعلت رواية "دلشاد" حقبة تاريخية طويلة من تاريخ عُمان تمتد إلى أكثر من نصف قرن (من بدايات القرن العشرين وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية بقليل) خلفية خافتة، تكاد لا تُرى رغم أنها تُحسّ بشدة، لتاريخٍ آخرَ موازٍ، هو تاريخ الإنسان العُماني بما كابده من جوع ومرض وخوف، ونقص في المال والأنفس والثمرات؛ دلشاد الذي يضطر للتخلي عن ابنته ليضمن لها مجرد البقاء على قيد الحياة، مريم التي تحرمها الظروف الحياتية الصعبة من عيش طفولة عادية كما بقية الأطفال، "ما حليمة" التي تنظر لفلذات كبدها تموت أمام عينيها من المرض وهي لا تستطيع فعل شيء، حميد بن عبدالله الذي تحرمه العنصرية من الزواج بمن يحب، ما مويزي التي تحكم عليها تقاليد العبودية أن تُحرم من أمها وهي صغيرة، وغيرها من الشخصيات الأخرى التي نتتبع تاريخها في نفس الوقت الذي تُقطِّر فيه بشرى تاريخَ عُمان قطرة قطرة، بدءًا من المواجهات بين السلطنة والإمامة وصولًا إلى اتفاقية السيب، ومرورًا بالظروف السياسية عند تولي السلطان سعيد بن تيمور الحكم، وليس انتهاء بالحرب العالمية الثانية وتأثيراتها السلبية على حياة الناس، خاصة عندما "دخلت اليابان الحرب، وصارت تهاجم كل سفينة للإنجليز، ثم صارت لا تفرق بين سفن الإنجليز وسفن العرب، فأغرقت سفنًا صورية كثيرة، وهكذا توقفت التجارة، وامتنع توريد البضائع من الهند وشحت المؤونة" واضطر التجار إلى رفع أسعار السكر والبر والأرز والتمر والليمون، وبلغ الأمر ببعض اللصوص إلى ذبح الحمير وبيع لحمها للناس!. كل هذا وأنا كقارئ لا أشعر بأن الرواية تتتبع تاريخ الحرب بقدر تتبعها لتاريخ الجوع الذي تسببت فيه هذه الحرب. وبعبارة واحدة هي رواية تاريخ الفرد الجائع في عُمان في مقابل تاريخ الجماعات الذي يُعني به المؤرِّخ فقط، إذا ما استعرنا رؤية كونديرا.

تاريخٌ آخر يحسب لبشرى خلفان رصْده في هذه الرواية، هو تاريخ التعايش في عُمان الذي سمعنا عنه كثيرا في الإذاعة، وقرأنا عنه في كتب التاريخ والمقالات، ولكن نادرًا ما لمسناه مجسّدًا في أعمال أدبية ذات جودة فنية. لقد نجحت الرواية في تقديم مسقط جامِعة لأعراق متعددة متعايِشة فيما بينها، ووظفتْ حكايات تراثية وأغاني وأهازيج بلوشية تشكّل ثراء وتنوُّعًا للثقافية العُمانية، رغم أنها غير ملتفَتٍ لها إعلاميًّا بعد.

إنها باختصار رواية فاتنة تذكّر المرء بمقولة المؤرِّخ والمستعرب الإسباني جونثالث فيرّين إن "التاريخ ليس ما حدث، إنما ما نرويه".