بشرى خلفان
بشرى خلفان
أعمدة

نوافذ: قرن آمون وذاكرة سيمونيدس

24 مارس 2021
24 مارس 2021

بشرى خلفان

كانت دقائق قليلة تلك التي فصلت بين خروج الشاعر اليوناني سيمونيدس من قاعة الطعام، وتحطم سقفها وسقوطه على الحاضرين. غطى غبار الحطام كل شيء، والأشلاء التي تمكنوا من سحبها من تحت الركام تخالطت، وفقدت ملامحها، حتى لم يبق منها شيء يستدل به. لكن سيمونيدس وقف هناك صامتا، متجاهلا كل ما حوله، أغمض عينيه، وأعاد إنشاء القاعة في خياله، بكل تفاصيلها.

وهو مغمض العينين استطاع سيمونيدس رؤية مجلس كل واحد من الحضور، ذاك الذي كان يدني عنقود عنب من فمه، والآخر الذي تركه يرتشف من كأسه، بينما يلتفت ثالث ليهمس بشيء ما في أذن صاحبه، هكذا رآهم جميعا، صاحب الدعوة وضيوفه الذين قضوا قبل دقائق.

يقول جوشوا فوير صاحب كتاب “ رقصة القمر مع آينشتاين” إنه هكذا ومن هذه الحادثة ولد “ فن التذكر”، الذي كان له موقع مميز بين الفنون عند الإغريق والرومان. لفت الكتاب انتباهي وأنا أسير بين صفوف المكتبة، باحثة عن كتاب لا علاقة له بهذا العنوان، إذ يبدو أن هناك قلقًا يصيبنا جميعا في سن معين، حول تراجع الذاكرة.

لكني أتذكر بأن ذلك القلق سكنني مبكرًا، حتى قبل أن أدخل مرحلة نسيان أماكن الأشياء؛ نظارتي ومفاتيحي وماذا تناولت على الإفطار، حدث ذلك في الطائرة عام ٢٠٠٢، عندما شاهدت فيلمًا من بطولة كيت وينسلت وجودي دينش، عن حياة الفيلسوفة والروائية البريطانية الأيرلندية، آيريس مردوخ.

كان أول مشهد صادم في الفيلم، هو تعثر الأستاذة في الكلام، وهي واقفة بين طلبتها وزملائها، مضطربة، يكسوها شيء من الخجل، وهي تحاول القبض على خيط الكلام الذي انسل من بين شفتيها وهرب.

تدريجيًا فقدت مردوخ ذاكرتها، إذ شخصت بالزهايمر في ١٩٩٧، ولعامين عانت من فقدان الذاكرة، وكل ما يرتبط بها من عواطف، وأفكار، فلم تعد تعرف نفسها، ولا زوجها، ولا أفكارها، ولا كتابتها، أو حتى كيفية العودة إلى البيت.

تعتبر مردوخ واحدة من أهم الروائيين الإنجليز في النصف الثاني من القرن العشرين، كتبت ست وعشرين رواية، وحازت الكثير من الجوائز والألقاب الشرفية، حتى كادت مهنتها كروائية أن تطغى على مهنتها الأكاديمية وبحوثها الفلسفية.

كتبت آخر رواية لها “ معضلة جاكسون” في ١٩٩٥، قبل إصابتها بالزهايمر بالطبع، فالسراد والروائيون، يبنون عوالمهم معتمدين على مخزون من الذكريات، أي تلك الملحوظات الصغيرة، التفاصيل المتراكمة- بقصد أو دون قصد- والمحفورة في قرن آمون، وهو فص يوجد بحسب علم التشريح، على جانبي الدماغ. قرن آمون، بحسب علم وظائف الأعضاء، مسؤول عن دمج معلومات الذاكرة القصيرة المدى في الذاكرة طويلة المدى، وهو الذي يشكل الذاكرة المكانية أيضا، أي إنه المسؤول عن تخزين كل التفاصيل الخاصة بالأسماء والأماكن والاتجاهات والمواقف والخبرات، وما يأتي معها أو يتشكل بها من عواطف ومشاعر وقيم.

السراد لا يروون - بالضرورة - حكاياتهم الخاصة أو حتى نتفا منها، إلا أنهم يمتاحون من الذاكرة، بشكل غير صريح أو مباشر، فيذهبون دون وعي إلى الوجوه والأصوات والروائح والمشاعر المختمرة في الذاكرة، فتتحول بقدرة السرد إلى مشاهد مرسومة، وشخصيات حية بكل حمولاتها العاطفية والنفسية والفكرية، تتشكل في مخيلة الكاتب، ثم تتسرب عبر الكلمات إلى مخيلة القارئ، لتصبح في كثير من الأحيان جزء من ذاكرته أيضا.

الذاكرة هي كل ما نملك في مواجهة فكرة التلاشي، هي اللحظة التي نعيشها محمولة على كل ما سبق، وهي التي تعيد تشكيلنا باستمرار في صيرورة لا نهائية، هي سر إنسانيتنا، وهي أيضا التي تجعل من بعضنا سرادا بارعين.