أمل السعيدية
أمل السعيدية
أعمدة

ملحمة «دلشاد»

23 مارس 2021
23 مارس 2021

أمل السعيدية -

تمتاز عُمان بثقافات متنوعة، وروافد عديدة أثرتْ التجربة الإنسانية فيها، وعادة ما يضطلع الأدب بالدور الذي يقدم هذه الثقافة، يصقلها ويقومها، من خلال تحويلها إلى ذلك الشيء الملموس في حبكة الرواية، فلطالما كان الأدب قادراً على التوكيد على الاختلاف الجذاب، وكيف أن المكان يتشكل عبر تفاعل عوامل عديدة، فيصبح القارئ، واقفاً على الطريق نفسه الذي سلكه الأهل والأجداد في رحلة صياغة قصة هذا المكان أحلامه ومآسيه. هذا ما جذبني على الفور عند قراءة رواية بشرى خلفان «دلشاد» والصادرة حديثاً عن منشورات تكوين في الكويت. ففي هذا الجزء من الملحمة نقرأ عن مسقط في أيام جوعها، وفي يد من كانت السلطة في بدايات القرن المنصرم، منطلقين بحذر من التنوع الإثني والثقافي فيها، فدلشاد، الشخصية السعيدة والتي أُيقنت الرواية باسمه، ولد عربي، يترعرع ويكبر وسط البلوش. ثم نتابع في سيرة نموه، نمو المكان ومعالمه، وكل ما يقلق الناس في ذلك الحين، في نظرة نافذة على واقع الاختلاف الطبقي الذي ميز مسقط مثل أماكن كثيرة في العالم آنذاك. ونشهدُ بعد ذلك تحولات هذه القصة عبر سلسلة أجيال مختلفة.

ليس هذا وحده ما خطف قلبي في هذا العمل الروائي، بل الاهتمام الكبير بالشخصيات، بتركيبتها، بلغتها الخاصة، حتى أنني توقفت عن القراءة بعد أن جاءت تلك الجملة التي تعلن أن «خالد» وهو شخصية هامشية لا تظهر إلا في فصل وحيد من العمل، ولا يتحدث بصوته، كان يعرف الإنجليزية وفي صور يتحدث مع الإنجليز بطلاقة، ثم يلقى حتفه على الشاطئ. لقد تأثرت كثيراً بموته، إذ بدا لي أن لا أحد هامشي هنا، وأن ذلك الموت هو نسيج من مناخ الموت المقبض على هذه الجغرافيا. أما الرحلة التي قطعها دلشاد للهند وكل ما واجهه هناك، فهي رحلة وصل بين ثقافة ساهمت في بناء مسقط، وفي اتجاهاتها بل وحتى أنني سأجازف وأقول مستقبلها أيضا.

كتبت بشرى خلفان هذه الرواية، بأسلوب أدبي ساحر، مدركٌ تماماً أنه يصيغ ملحمة، لقد ذكرتني الكتابة بأسلوب الطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال»، أو عبد الرحمن منيف في مدن الملح، فهنالك قدر من الشعرية في الحكي نفسه، لا في الوصف، أو التقرير، وأعتقد أن هذه الكتابة صعبة للغاية، وتتطلب ثباتاً في الإيقاع وتحريراً متواصلاً، فعلى الحدث أن يتحرك باتجاه الحقيقة التي يرغب الكاتب بتقديمها، بدلاً من أن يجزل في وصفها بأسلوب صحفي أو تعليمي ساذج.

إن قيمة العمل الأدبي أيضاً بعد أن تعرفنا على تركيب هويتنا، وتعقيدها، أنها تفتح المجال لمزيد من الأسئلة، والحديث عن التاريخ، ولقد أهديت نسخة منها لأبي وأمي، ولأول مرة عندما أخبرتهما مندهشة عن أشياء لم أكن أعرفها عن مسقط، قالا لي إنهما عاشا شيئاً منها، وبدأت حكاية أخرى تنُسج في بيتنا، حكاية لم تكن ستبدأ لولا أن كاتبة أقدمت على كتابة هذه القطعة الساحرة من الأدب.