سليمان المعمري
سليمان المعمري
أعمدة

نوافذ: عن أمي في عيدها

20 مارس 2021
20 مارس 2021

سليمان المعمري

"فليخجل من نفسه ذلك الذي يتحدث عن الحزن بينما أمه مازالت على قيد الحياة". لستُ أذكر بالضبط أين سمعت أو قرأت هذه العبارة، غير أنني أؤمن بها إيمانًا مطلقًا وأنا أستعيد السنين الماضية من حياتي. كانت أمي – أطال الله في عمرها - رفيقة كل التفاصيل الصغيرة في حياتي وحيوات إخوتي، إلى حدّ أنه لا يمكن تذكّر مناسبة قديمة أو حديثة، صغيرة أو كبيرة، لم يكن لها فيها حضور بارز، ولا يمكن تخيّل بيتنا "العود" كبيرًا دون حضورها فيه. إن وصف الأم بأنها عمود البيت ليس مجرد إكليشيه مكرور، يعرف ويفهم هذا الأمر كل من جرب غيابها عن المنزل ولو لفترة قصيرة، في مستشفى للعلاج، أو رحلة حج أو عُمرة، ولا أجرؤ هنا على الحديث عن غياب أبدي وقد عرفتُ أناسًا يؤرخون لشيخوخاتهم باللحظة التي غادرت فيها الأم الحياة، حتى وإن كانوا لايزالون في شرخ الشباب.

مثل عُمانيين كُثر جربتُ في طفولتي وجزء من يفاعتي غياب الأب الساعي في مناكبها بحثًا عن لقمة العيش، كان أبي يعمل في الإمارات ولا يعود للبيت إلا مساء الخميس في إجازة ليومٍ يتيم يقضي نصفه في التسوق لتوفير احتياجات المنزل لأسبوعٍ قادم، فيما يقضي النصف الثاني في طريق العودة إلى عمله. وإذا كنتُ لم أحظَ بصحبته والجلوس إليه والاقتراب منه إلا بعد إنهاء خدمته في جيش الإمارات، فإن علاقتي بالأم كانت مختلفة تمامًا. نحن أبناء أمهاتنا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. كانت الأم مظلتنا الحياتية التي تقينا الشمس والمطر والغبار والهواء المسمم بالحزن، كانت سيدة حياتنا، بالمعنى الإيجابي للكلمة؛ تنظمها كساعة فائقة الدقة، ترتب أفكارنا، وتحرس أحلامنا، وتهدهد مخاوفنا، وتربت على أكتافنا بحنو بالغ لا شبهة فيه لرياء أو تصنّع. وكان يُهيأ لها أحيانا بإغراء من فضيلة الخيال أنها تستطيع أن تقي أولادها كل ما يمكن أن يعترض طريق حياتهم من مصاعب ومتاعب. ويحدث أن تنجح في أحايين كثيرة بقوة هذا الإيمان وحده.

ومع مرور السنوات، هُيّءَ لي وإخوتي أننا كبرنا، بعضنا تجاوز الخمسين، والبعض الآخر يطرق بابها على استحياء، ومع ذلك مازلنا في نظر أمي أولئك الصغار الذين يحتاجون رعاية، وينبغي التأكد من أنهم أكلوا بشكل جيدـ، أو ناموا بطريقة مريحة. توقفتْ آلة الزمن بأمي ونحن أطفال عندما كانت تحرص على استيقاظنا المبكر لئلا تفوتنا الدراسة، حتى إن كان وسيلة ذلك أحيانًا الماء البارد، ولا تسمح لنا بالذهاب للمدرسة قبل التأكد من أننا تناولنا إفطارنا، ولبسنا دشاديشنا النظيفة وكميمنا المخرّقة، تصدمنا بتحذيراتها اليومية لنا مما يمكن أن نصادفه في طريقنا من عقبات تحطّم الأطفال في سننا كأوانٍ فخارية، وهي التحذيرات التي لن ندرك أهميتها إلا بعد سنين طويلة. باختصار كنا نحبها ونحترمها ونخافها، أما اليوم وقد عشنا ورأينا، ورُحْنا وجئنا، فلم يبق إلا الحب الشديد والاحترام الكبير. أما الخوف، فقد رميناه بعيدًا، متمثلين عبارة بطل رواية "المرأة العسراء" للأديب النمساوي بيتر هاندكه: ‏"أنتِ من هؤلاء الناس النادرين الذين لا نحتاج في حضرتهم لأن نخاف، بل نأمن".

ألف ألف قُبلة لأمي في عيدها.