أفكار وآراء

عشرون عامًا في قطاع التعليم العالي

17 مارس 2021
17 مارس 2021

د. سالم بن عبدالله آل الشيخ -

راحةٌ سرت أعقبت مكالمة قصيرة نقل لي صاحبها خبر قبولي موظفًا في وزارة التعليم العالي، بدا لي أنه المكان المناسب الذي يمكنني من خلاله مواصلة دراستي العليا وتلك غاية أرجوها، كما أنني سألتقي بصفوة المجتمع من حملة المعارف والعلوم في مؤسسة تحمل راية التعليم العالي، فالتحقت بوزارة التعليم العالي عام2001، بُعيدَ احتفالها بالعيد السابع على تأسيسها الذي كان في شهر يناير من عام 1994م.

عشرون عامًا مرت بالكمال والتمام على تلك اللحظة الفارقة، عشرون عامًا مرت كلحظة بصر، كأمسية جميلة في شهرٍ شتويٍ مسقطي، تنقّلتُ في هذه الأعوام بين الوظائف المختلفة كما ينتقل العازف في مقطوعةٍ موسيقيةٍ. واليوم وأنا على مفترقِ طُرقٍ جديد أغادرُ فيه قطاعَ التعليم العالي لألتحق بوزارةِ الاقتصاد، أجدني مشدودًا أن أكتب في هذا السياق هذا المقال، كانت العشرون السنة الماضية سنوات مليئة بالتغيرات الكبيرة في قطاع التعليم العالي العماني، سنوات تضاعف فيها عدد المؤسسات التعليمية الجامعية، وعدد الطلاب الملتحقين بالتعليم العالي، كانت سياسة السلطنة تختلف عن بعض جاراتها في إدارة التعليم العالي، ففي حين فضّلت بعض تلك الدول أن تكون مؤسسات التعليم العالي حكومية خالصة، ارتأت عمان أن تمنح الفرصة للمؤسسات والشركات الخاصة أن تنمو في هذا القطاع الحيوي، موفِرةً لها الدعمَ الكامل، ومنظومةَ تشريعات تحفظ الحد الأدنى من جودة التعليم.

عندما وطئت قدماي وزارة التعليم العالي في بداية الألفية الجديدة لم تكن بعمان إلا جامعة واحدة وهي جامعة السلطان قابوس، و10 كليات، منها 3 كليات خاصة، أما اليوم ففي عمان 10 جامعات، كلها خاصة باستثناء جامعة السلطان قابوس وجامعة التقنية والعلوم التطبيقية، وما يربو على 42 كلية، 20 منها خاصة، كما ارتفع إجمالي عدد الطلاب المنتسبين للتعليم العالي من حوالي 50 ألفا في عام 2001 إلى حوالي 122 ألفا في عام 2021، صاحب ذلك تزايدًا كبيرًا في عدد البرامج المطروحة كمًا ونوعًا.

كان أكبر التحديات في البدايات الأولى لتلك السنوات هو وجود مؤسسات تعليمٍ عالٍ توفر قوى عاملة وطنية بمؤهلات جامعية، فقد كان الاعتماد الأكبر حينها على خريجي جامعات الدول الأجنبية والعربية، والقوى العاملة الوافدة، ولكن التحدي اليوم انتقل من توفر التعليم العالي للعمانيين في عمان إلى تحدٍ أكبر وهو قدرة هذه المؤسسات على تلبية احتياج سوق العمل، وسأركز حديثي هذه المرة في هذا المقال عن دور مؤسسات التعليم العالي في رفد سوق العمل بالقوى العاملة، وسيأخذ الحديث عن المهارات المساحة الأوسع باعتبار أنها مطلب متزايد في سوق العمل.

حقيقة الأمر أن «تحدي المواءمة» هذا كما يحلو للبعض تسميته - هو تحدٍ عالمي فرضته ظروف كثيرة، أهمها الديناميكية العالية في سوق العمل؛ سرعة التغير هذه أتت نتيجةً طبيعية للتغير السريع في التقنية وأساليب إنجاز العمل، مما يستدعي دومًا معارف ومهارات جديدة يصعب على مؤسسات التعليم العالي ملاحقتها، تلك المؤسسات التي تقيّم برامجها في فترات لا تقل عن أربع سنوات، عندما تكون قد رفدت سوق العمل بدفعتها الأولى منذ بدء البرنامج، إو إجراء آخر تعديلٍ جذريٍ عليه، أربع سنوات طويلة جدًا في عمر سوقٍ يتغير في أيامٍ أو أشهرٍ قليلة، كما أن التنافس الشديد في سوق العمل الذي يرتكز على الابتكار فرض الحاجة إلى المهارة أكثر من المعرفة النظرية المتوفرة في الهواتف الذكية، وعبر شاشات الألواح الالكترونية.

هنا بدأت مؤسسات التعليم العالي تفقد مكانتها التاريخية كمزود رئيسي للسوق بالقوى العاملة، فبادرت شركات عالمية كبيرة كشركة جوجل وأي بي أم وآبل وهليتون بعدم اشتراط الشهادة الجامعية للتوظيف، قبل أن تنتشر العدوى فتتبعتها شركات أصغر موزعة في أرجاء العالم المختلفة، أدركت هذه الشركات أن المعرفة النظرية وفّرتها الإنترنت، ويمكن الحصول عليها في لحظات عبر الهاتف المحمول، غير أن المهارات - في الجانب الآخر - هي الأكثر أهمية، ولا يمكن تعلّمها إلا بالتدرب عليها، وممارستها، وهذه ما لا تركّز عليه معظم مؤسسات التعليم العالي.

خطوة أخرى جاءت من طرف حكومي هذه المرة يُفقد مؤسسات التعليم العالي مكانتها التاريخية، فقد بادرت منتصف العام الماضي 2020 دولة عظمى كأمريكا باعتماد المهارات بدل الشهادات في التوظيف الحكومي، وقالت الحكومة إنها لن تركز بعد الآن بشكل ضيق على المكان الذي يذهب إليه الإنسان في دراسته الجامعية، ولكن على المهارات والمواهب التي يملكها، ويجلبها إلى الوظيفة، وحثت جميع الشركات أن تخطو معها هذه الخطوة.

كما سعت الكثير من الدول إلى وضعِ أُطرٍ وطنية للمهارات المطلوبة في سوق العمل، تركّز هذه الأطر على تلك المهارات الأكثر طلبًا في سوق العمل المحلي والعالمي، فتكون دليلًا إرشاديًا لكافة القطاعات التعليمية والتدريبية في تلك البلد، وتأخذ هذه الأطر طابعًا واقعيًا للمهارات المطلوبة اليوم، واستشرافيًا لمهارات المستقبل. ولم تتأخر عمان عن الركب، فأصدرت العام الماضي 2020 إطارًا وطنيًا للمهارات المطلوبة في سوق العمل مبنيًا على دراسة المهارات الأكثر طلبًا في سوق العمل العالمية والمحلية اليوم وفي المستقبل المنظور.

مع تصاعد الاهتمام بعنصر المهارات، سعت بعض المؤسسات العالمية إلى ابتكار مؤشرات تقيّم قدرة أنظمة التعليم في العالم على تزويد طلابها بالمهارات المطلوبة في سوق العمل، وكان من ضمن تلك الموسسات « Economist Intelligence Unit» التي ابتكرت في عام 2017 مؤشر التعليم العالمي من أجل المستقبل، وهو أول مؤشر عالمي شامل يركز على تطوير المهارات الموجهة نحو المستقبل، ويقيّم فاعلية الأنظمة التعليمية في تخريج قوى عاملة ماهرة مطلوبة في سوق العمل، وهو يركز على ثلاث مجموعات رئيسية من المهارات: المهارات الناعمة، والتفكير النقدي، والمهارات الرقمية والتقنية. أتت دولة فنلندا والسويد على رأس الدول الخمسين التي قيمها هذا المؤشر حسب آخر تقرير.

إذن لم يعد سوق العمل يجد الوقت لتدريب القوى العاملة الجديدة على المهارات المطلوبة، ففي مجال التسويق - على سبيل المثال - هو بحاجة إلى موظف يضع له من اليوم الأول لعمله خطة تسويقية، وليس لمن يشرح له كيفية بناء خطة تسويق، وفي مجال التصميم هو محتاج لمن يُحضر له لمكان العمل مهارة التصميم، لا لمن يشرح له في إطار نظري صِرْف كيف يمكن وضع تصميم، وهكذا الحال مع باقي التخصصات الأخرى، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى تجنب الرسوم الجامعية المرتفعة، والانخراط في دورات قصيرة مكثفة لاكتساب مهارة بعينها، وهذا وإن جعلهم أكثر استعدادًا لسوق العمل فإنه - قد يكون - فوّت عليهم الجانب النظري المهم من عملية اكتساب المهارة، كما فوت عليهم منظومة القيم التي يكتسبها الطالب الجامعي.

إذن ... ماذا على مؤسسات التعليم العالي القيام به لتعود إلى الصدارة وتأخذ دورها في رفد سوق العمل بالقوى العاملة؟ كيف لها « إن جاز التعبير- أن تُعيد الثقةَ بها عند ممن يرى أنه لم تعُد هناك ضرورة لوجودها كما كان عليه الأمر في السابق؟

للإجابة عن هذا السؤال يمكن الاسترشاد بما طرحته الأدبيات المختلفة في هذا المجال، كما يمكن دراسة وتحليل بعض المؤشرات العالمية المرموقة التي توصلت لبعض المعادلات التي يتم من خلالها المفاضلة بين النظم التعليمية المختلفة بناءً على قدرتها على تخريج قوى عاملة ماهرة مطلوبة في سوق العمل، غير أنني سأشير هنا إلى أهم عاملين يرد ذكرهما - على الدوام - في هذا السياق، وهما يشكلان الجزء الكبير من الحل، وهما؛ أولًا : تغيير مقادير المكونات الثلاثة لمعادلة النموذج التعليمي وهي القيم والمعارف والمهارات، ثانيًا: تغيير أساليب المراجعة والتقييم للبرامج والمقررات الدراسية.

على مؤسسات التعليم العالي أن تقوم بتغيير مقادير المعادلة التي تتبعها في تأهيل طلابها، تلك المعادلة التي تتكون من ثلاثة عناصر رئيسية لتعطي في المحصلة عنصرًا مؤهلًا لسوق العمل، وهي: قيم ومعارف ومهارات، بحيث تقوم بزيادة نسبة المهارة على حساب المعرفة النظرية التي أصبح اليوم ممكنًا الحصول عليها بسهولة من خلال الفضاء الإلكتروني المفتوح، والمنصات التعليمية الكثيرة، وعليه سيبقى مقدار القيم قليلًا كما هو لأن الطالب اكتسب المقدار الأكبر منه في تعليمه العام قبل الجامعي، وينخفض مقدار المعرفة لصالح مقدار مهارة أكبر، وبذلك ستستقيم المعادلة مع متطلبات سوق العمل.

وقد بدأت بعض الجامعات بالفعل القيام بذلك، فزادت من جرعة ما يُعرف بمهارات التوظيف في برامجها الدراسية، وأدخلتها في أساليب تقييم الطالب المختلفة، ومهارات التوظيف في معناها العام هي تلك المهارات الاجتماعية والعاطفية اللازمة للنجاح في سوق العمل كمهارة التواصل وحل المشكلات والتفكير الناقد وغيرها، وتُعد جامعة ملبورن الاسترالية من الجامعات الرائدة في هذا الجانب، بل أن بعض المؤسسات التعليمية زادت بأن شجعت طلابها على اكتساب المهارات من خلال الأنشطة الطلابية، واعتمدت أنظمة تقييم وحساب لكل مهارة، واشترطت نقاطا معينة يتعين على الطالب حصادها ليكون مؤهلًا للتخرج فيها؛ لذا سيكون عنده في كشف تخرجه ما يبرز مهاراته إضافة إلى معارفه النظرية.

أما الأمر الآخر الحاسم فهو قيام المؤسسات التعليمية بإجراء التعديلات اللازمة وابتكار الطرق لتقييم برامجها الدراسية ومقرراتها المختلفة بسرعة تواكب سرعة تغير سوق العمل، وهذا الأمر وإن بدا للبعض سهلًا فهو بخلاف ذلك، فسوق العمل في حركة تغير دائبة، تتسارع وتيرتها كل يوم مع تطور التقنيات المختلفة، وهذا بخلاف الحركة في المؤسسات التعليمية التي تحتاج في الغالب لأربع سنوات لكل برنامج لتبدأ بعدها أول تقييم فعلي له، في تلك الأربع سنوات يكون سوق العمل مر بتحولات مختلفة كثيرة، بعضها قد يأخذ طابعًا جذريًا.

من هنا جاءت الحاجة لاستشراف المستقبل لمعرفة المعارف والمهارات التي سيكون عليها طلبًا متزايدًا في المستقبل، ووضعت الحكومات المختلفة الأطر العامة لهذه المهارات حتى تكون المؤسسات التعليمية قادرة اليوم على إعداد خريجيها لمعارف ومهارات تكون محل طلب حين تخرجهم بعد سنوات الدراسة، وهذا لا يُغني أبدًا عن عينٍ مفتوحةٍ على السوق ترفد المؤسسة التعليمية بالتغذية الراجعة المستمرة حتى يمكنها إدخال التعديلات البسيطة والمتوسطة على برامجها التعليمية في كل فصل دراسي، ولعل هذا يجعل الحاجة إلى تكوين ما يعرف بروابط الخريجين ومذكرات التعاون مع مؤسسات القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني أكثر إلحاحًا وأهمية.

إذا كانت السنوات الماضية سنوات نمو لقطاع التعليم العالي العماني من خلال زيادة عدد مؤسسات التعليم ونمو في عدد التخصصات المطروحة، فإنه لابد لهذه المؤسسات - حتى تستمر في القيام بدورها كرافد رئيس لسوق العمل - أن تُجري التعديلات اللازمة في نموذجها التعليمي لتعطي مساحة أوفر في برامجها الأكاديمية وأنشتطتها الطلابية لمهارات التوظيف المختلفة، وأن تزيد من كمية التغذية الراجعة إليها من ميادين العمل من خلال وضع خطط وأساليب كثيرة مبتكرة تمكنها من القيام بذلك، لتتمكن باستمرار من تغيير مناهجها وأساليب تقيمها بما يواكب حاجة سوق العمل المتغيرة.