أفكار وآراء

مكتبة الندوة العامة.. في يوبيلها الفضي

14 مارس 2021
14 مارس 2021

خميس بن راشد العدوي -

10 مارس.. من كل عام؛ خصصته المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم «الألسكو» يوماً للمكتبات العربية، وقد قررنا في مكتبة الندوة العامة ببَهلا أن نحتفي به هذا العام بالإعلان عن احتفالنا بيوبيلها الفضي، وفي نيتنا أن يكون حفلاً بهيجاً نجتمع فيه بمحبي الثقافة، وداعمي المكتبة وروادها من الولاية وخارجها، ليفرحوا معنا بالمنجز المعرفي الذي تحقق خلال ربع قرن، لكن اجتياح كورونا كوفيد19 العالم قد يفوّت علينا هذا اليوم المشهود، ولله أقداره.

المقال.. ليس تقييماً للمكتبة، الذي ينبغي أن يقوم به غيرنا، وإنما هو خلجات قلب يعبّر عن سعادته، وعمل يقدم تجربته، ويحرّض مجتمعه على خدمة العلم والمعرفة، ويحكي قصة نجاح أهلي في النهضة العمانية؛ التي أرسى دعائمها جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيّب الله ثراه، ويجدد دماءها جلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله.

مكتبة الندوة العامة.. ثمرة تفاعل حضاري عاشته بَهلا على مر الدهور؛ فخرج منها الأئمة والسلاطين، وبرز فيها الفقهاء والأدباء، وكان العلم هو السلك النظام لجواهر مجدها، فهي بيت علم: المكتبات غرفه وأقسامه، والكتب أرففه ونمارقه، والعلماء روّاده ورادته. فقد توالت في بَهلا المكتبات، فأحصيتُ فيها إحدى عشرة مكتبة وقفية قامت قبل عصرنا، سخّرت علومها للناس، ولها أوقاف ووصايا لخدمتها، ولنسخ الكتب وشرائها وتجليدها. كما وُجِدتْ في بَهلا دُورٌ لنسخ المخطوطات، جعلتْها من أكثر البلدان العمانية نسخاً للكتب.

وإذا كانت القيم المجتمعية تتشكل عبر تأريخ طويل؛ فإن العلم من أهم القيم التي هيمنت على تاريخ بَهلا، ولذلك.. ما أن بدأت أنوار النهضة الحديثة تُشرق؛ حتى انبرى ثلة عصامية من الشباب بإنشاء مكتبة؛ لتذكي روح المعرفة في النفوس، وتعمل على بناء الإنسان قيمياً، قبل أن تسهّل وصول الكتب إلى يديه.

مع المسار الفكري الطويل الذي شهدته بَهلا؛ وخروج كبار الفقهاء والأدباء من جيل المؤسسين فيها على مستوى عمان؛ كأبي المؤثر الخروصي، وابن بركة، وأحمد بن مفرج، وعائشة الريامية، وسليمان بن سليمان النبهاني، إلا أن الأيام دول، والتاريخ بين مد وجزر، فقد جئنا إلى الحياة؛ وبَهلا تصفق جنباتها من المكتبات، وكأن ريحاً صرصراً عصفت بأرضها فلم تذر من مكتباتها إلا كتباً متناثرة بأيدي بعض الأهالي، بيد أنه مع الحركة العلمية التي قامت بها الدولة، والتي كنا من ثمارها خلال عقدي السبعينات والثمانينات الميلادية؛ تاقت نفوسنا لمواصلة الطريق الذي سلكه أسلافنا، فقامت مكتبة الندوة العامة في منتصف التسعينات، لتفتتح رسمياً عام 1996م.

على قلة ما في يدنا؛ إلا أننا كنا موقنين بأن المكتبة ستنمو مع الأيام بهمم الشباب، وما واجهناه حينها هو؛ الحاجة لغرس قيمة القراءة في المجتمع، فكان من أول أهداف المكتبة نشر ثقافة القراءة، فركّزنا على تحقيقه بوسائل شتى، مهدنا له بإقامة ندوة بعنوان «كيف ننمو قرائياً»، نشرنا أعمالها في كتاب.

تحققُ هذا الهدف الجوهري.. استغرق منا جهوداً، وقطع من المكتبة عمراً، إلا أنه الباب الذي ولجت منه إلى اللحظة الجميلة التي نشهدها الآن. فلم تقتصر المكتبة على توفير المعلومة، وإنما غدت مركزاً ثقافياً ومؤسسة حضارية، يرتوي من معينها أهالي الولاية؛ كبيراً وصغيراً، نساءً ورجالاً، وأصبحت مقصداً للباحثين من خارج الولاية، فاليوم.. المكتبة تضاهي أي مؤسسة ثقافية بالسلطنة، مع أن بعض تلك المؤسسات تقف وراءها جهات رسمية أو اقتصادية، والجهة -المشكورة- التي تقف مع مكتبة الندوة هي المجتمع؛ الذي عملت المكتبة ذاتها على نفخ روح القراءة فيه.

التحول لمؤسسة ثقافية أُمنية المشتغلين في هذا المجال الشريف، إلا أن الأماني تتبدد إن لم يحققها العمل على أرض الواقع.. من هذه البديهة انطلقنا في مشروع المكتبة، فكنا في كل اجتماع لمجلس مؤسسي المكتبة نسأل أنفسنا: ما الجديد الذي قدمته المكتبة؟ الجواب على هذا السؤال هو «أكسير الحياة» الذي عثرت عليه المكتبة، إنه «حجر الفلاسفة» الذي أعيا الكثيرين تصوّرُ وجوده، فضلاً عن العثور عليه، الجواب.. كان يرتقي بالمكتبة من طور إلى طور، بعد أن كانت بضع مئات من الكتب في غرفة، ها هي اليوم تضم ستة أقسام، كلها تعمل كخلايا نحل، وتقيّم منجزها باستمرار، ليس همّ إدارة المكتبة أن تسهّل وصول المعرفة للناس فقط؛ بل هدفها بعد نشر ثقافة القراءة إيجاد ثقافة إنتاج المعرفة؛ بصناعة الباحث أولاً، ثم بإقامة البحوث والدراسات، فشكّلت أقسام البحث نصف أقسام المكتبة؛ فجاءت «غرفة بَهلا».. لتتخصص في البحث الحضاري بالمنطقة، و«المكتبة الإباضية».. لخدمة الباحثين في فكر المدرسة الإباضية؛ لاسيما من خارج السلطنة، فالمكتبة.. أَمّها باحثات وباحثون من أمريكا وروسيا وفرنسا وكوريا الجنوبية والهند وغيرها، بالإضافة لباحثين من الوطن العربي. و«ركن السلطان قابوس للبحوث والدراسات».. ليقدم دراساته في منجزات الدولة الحديثة؛ وفي مقدمتها السياسية والاقتصادية التي شهدتها السلطنة في نهضتها المجيدة.

ومن مبدأ صناعة الإنسان معرفياً؛ افتتحت المكتبة «غرفة الطفل».. لتنشئة الأجيال على حب القراءة والوعي بالإبداع في مختلف ضروب العلم وأوجه الحياة. قلبُنا ينبض بالوطن وعيوننا ترنو إلى العالمية؛ هذا المبدأ هو ما حدا بمكتبة الندوة العامة إلى تأسيس «مركز الندوة للترجمة».. لكي يعمل على التوعية بأهمية الترجمة في الاطلاع على المنجز المعرفي عالمياً، والاضطلاع بإيصال المعارف العمانية إلى القراء بغير العربية، وقد بدأ المركز بترجمة بعض الكتب العمانية؛ حتى الآن باللغتين الإنجليزية والفارسية، وخطتنا هذا العام أن نبدأ بالترجمة إلى اللغة الأوردية. وليُعلَم مقدار الجهد الذي تبذله المكتبة لتحقيق هدف الإنتاج المعرفي يكفي أن أذكر بأنها في هذه الأيام ستصدر ستة كتب؛ في الفكر الإسلامي، والحضارة والتاريخ، والتصوف، والتوثيق بالصور، وبعضها سيصدر بالإنجليزية والفارسية.

الإنجاز له شهوده في الأرض.. وتاج هذه الشهادة وفخرها؛ تشريف صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق أعزّه الله المكتبة عام 2014م، للوقوف على دورها المعرفي، والمجهود الذي بذلت فيه، وتعزيز جهود القائمين عليها؛ في موقف يدل على رعايته السامية لها ولعموم المشهد الثقافي بالسلطنة. كما أنها تعتّز بحصولها على المركز الأول في جائزة «السلطان قابوس للعمل التطوعي» على مستوى المؤسسات في دورتها لعام 2012م. وقد سعدت المكتبة بشهادة مبادرة «القراءة.. نور وبصيرة» على كونها أفضل إنجاز ثقافي، في الدورة العاشرة عام 2019م. وقد أصبحت المكتبة مقصداً للزوار من السلطنة وخارجها، فشهدت زيارات علماء ومفكرين وأدباء وإعلاميين ودبلوماسيين من مختلف أنحاء العالم؛ منها: السعودية وإيران والهند ومصر وليبيا وتونس وأمريكا وروسيا، وفي عام 2013م احتضنت المكتبة بعض أعمال «الاتحاد العام للأدباء والكُتّاب العرب» الذي عقد دورته السنوية في مسقط، فكانت ملتقى ثقافياً كبيراً على مستوى العالم العربي.

والمكتبة لها حضورها الدولي.. فهي عضو في «المركز الموحّد للفهرس العربي» ومقرّه الرياض، والذي يعقد اجتماعاته كل سنة في مدينة عربية، كما بعثت بوفود إلى بعض الدول لتوثيق العرى الثقافية؛ منها: الإمارات والجزائر، ولديها تواصل مع مثقفين من دول عديدة، وأقامت بالتعاون مع مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي وبيت الغشام ومؤسسة وفاء أياماً ثقافية في جزر القَمَر؛ صدرت أعمالها في كتاب بعنوان «أيامنا في القمر».

ومكتبة الندوة الآن.. وهي تحتفي بيوبيلها الفضي؛ في ظل النهضة المتجددة التي تشهدها السلطنة بقيادة مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق أدام الله مجده، على مشارف مرحلة نوعية جديدة من العطاء؛ تواصل فيها إنجازاتها بروح أكثر إبداعاً وأوسع عطاءً، نرجو أن نعلن قريباً عن ملامحها.