1603289
1603289
الملف السياسي

سويسرا.. جدل النقاب والقناع

11 مارس 2021
11 مارس 2021

ريم سارة العلوان

ترجمة : أحمد شافعي

 

تعيش سويسرا ـ التي سدد إليها وباء كورونا ضربة قوية ـ حظرا جزئيا منذ يناير. ومن ثم فإن ارتداء الأقنعة إلزامي في كل مكان بدءا بالمواصلات العامة وحتى منحدرات التزلج الخلابة. ولكن ذلك الواقع لم يمنع أغلبية ضئيلة من الناخبين السويسريين من إقرار حظر على أغطية الوجه الكاملة في المجالات العامة باستفتاء أقيم في السابع من مارس.

لم يكن الدافع إلى الحظر الجديد هو مشاعر مناهضة للقناع. فالواقع أنه لن ينطبق على أغطية الوجه ذات الدواعي الطبية ـ سواء الآن أو بعد الوباء. بل إن الإجراء استهدف أقلية ضئيلة من المسلمات اللاتي يرتدين البرقع أو النقاب. وفي حين أن المبادرات المماثلة في فرنسا وبلجيكا وبلغاريا وهولندا والدنمارك والنمسا اتسمث بإثارة الجدل، فإن توقيت فرض الحظر في سويسرا ينطوي على مفارقة عميقة ويبرهن برهانا قاطعا على أن جهود حظر أغطية الوجوه لم يكن لها علاقة حقيقية قط بالمخاوف الأمنية المفترضة المتعلقة بإخفاء الوجوه في المجالات العامة. فحظر البرقع في جوهره كان دائما ولم يزل محاولة لتهميش النساء المسلمات، وقد نجحت حالات الحظر تلك في تقوية المشاعر المناهضة للمسلمين وتحويلها إلى جزء من التيار الرئيسي.

كان استفتاء سويسرا نتاجا لمبادرة شعبية أطلقتها جماعة إيجركينجر كوميتي Egerkinger Komitee التي تضم أعضاء من حزب الشعب السويسري الوطني المحافظ اليميني، وتهدف المبادرة إلى مقاومة «مساعي الإسلام السياسي إلى السلطة في سويسرا». ذهبت الجماعة إلى أن «الأحرار لا يخفون وجوههم» وأن «البرقع والنقاب ليسا بثياب طبيعية» وجمعت في عام 2017 مائة ألف توقيع على التماس بإخضاع الأمر للاستفتاء. وفي السابع من مارس، أقر 51.2% من الناخبين السويسريين الحظر.

ليس التضييق على ظهور المسلمين في سويسرا بالأمر الجديد. إذ يخضع المسلمون السويسريون للمراقبة منذ عام 2004، حين أجرت سويسرا استفتاءين على إجراءات كان من شأنها تخفيف سبل الحصول على المواطنة للجيلين الثاني والثالث من المهاجرين. ونجحت جهود التعبئة التي بذلها حزب الشعب السويسري ضد تلك المبادرة في تحويل الاستفتاءين إلى استفتاءين ثقافيين على ما إذا كان المسلمون جزءا من المجتمع الوطني السويسري، وهي الفكرة التي رفضها أغلب الناخبين السويسريين. ثم اقترحت جماعة إيجركينجر كوميتي في عام 2009 مبادرة سعت إلى حظر المآذن على أساس أنها رمز للإسلام السياسي. وتم إقرار الحظر بأغلبية 57.5% من الناخبين السويسريين برغم معارضة المنظمات الإسلامية المحلية وزعامات كنسية وجماعات دينية أخرى.

في ديسمبر 2014، سعى حزب الشعب السويسري إلى منع أغطية الوجه الكاملة عبر مبادرة برلمانية لتعديل الدستور الفيدرالي، بزعم أن البراقع تهدد الأمن الوطني. لكن مجلس الولايات السويسري رفض ذلك في مارس 2017 على أساس قلة عدد مرتديات البرقع في سويسرا بما يعني عدم الإخلال بالنظام، فضلا عن التخوف من تأثير الحظر سلبا على السياحة من دول الخليج.

برغم أن حزب الشعب السويسري وجماعة إيجركينجر كوميتي ناشطان منذ عقود، فليس من الممكن تفسير استفتاء البرقع في سويسرا إلا في سياق إقليمي أوسع: وهو تحديدا أزمة الهوية التي تعيشها أوربا في ظل العولمة وتعدد الثقافات في العالم. فليست سويسرا إلا أحدث دولة تعبر عن هذا الخوف الثقافي وتخففه عبر التعامل مع حضور المسلمين والإسلام اللذين يعتبران خطرا أمنيا وطنيا أيديولوجيا سياسيا على القيم والحضارة الأوربية.

إن المسلمين جزء من نسيج أوربا منذ قرون، لكنهم يتعرضون لسوء الفهم وسوء التمثيل في الإعلام والسياسة، حيث غالبا ما يظهر الإسلام في إطار الدين المنطوي بطبيعته على العنف، ويجري تصوير المسلمين باعتبارهم عاجزين عن الاندماج في المجتمعات الأوروبية. وبرغم أن هناك، ولا شك، بعض القلق الثقافي ـ وهو نتيجة طبيعية للتغير المتسارع في تركيبة القارة السكانية ـ فإن أغلب الإثارة يأتي بسبب أحزاب سياسية هي التي تزكي هذه الإثارة لما لها من مصلحة في خلق «مشكلة إسلامية» مزعومة. يسعى طارحو هذه الأفكار إلى إقناع الجمهور العريض بأن الإسلام دين يتعارض بطبيعته مع القيم الغربية وأنه لا بديل عن تدجين المسلمين وترويضهم. وأصحاب هذه الأفكار يحققون الانتصارات في الوقت الراهن.

طالما كانت شيطنة الإسلام والمسلمين والمهاجرين في سويسرا ووصفهم جميعا بالمعادين لحقوق الإنسان والحرية ـ حرية التعبير والتدين والتوجه الجنسي ـ من أعمدة الاستراتيجية الانتخابية لحزب الشعب السويسري وغيره من الأحزاب القومية الشعبوية مثل اتحاد سويسرا الديمقراطي الفيدرالي وعصبة تيشينو. ولأن هذا التوجه أثمر عن تحقيق انتصارات انتخابية لا حصر لها لحزب الشعب السويسري ـ بما جعل منه الحزب الأقوى نفوذا في البلد ـ فقد تبنى غيره من الأحزاب مثل تلك الاستراتيجية.

وفي دوائر اليسار أيضا، ثمة في الوقت الراهن سردية تذهب إلى أن الإسلام ينتهك المعايير والممارسات الديمقراطية. إذ يؤمن كثير من اليساريين السويسريين أن المسلمين بصفة خاصة يميلون إلى اللجوء للعنف أو الإرهاب، وأنهم يسعون إلى خلق مجتمع قائم على الدين كعماد للنظام الاجتماعي والثقافي والسياسي. وأقصى اليسار في جنيف منشق بين مناصرين لتأويلات متشددة للعلمانية ـ مثل حزب العمل السويسري وشركائه في التحالف - وبين من يناصرون نموذجا منفتحا احتوائيا يعترف بالتعددية الثقافية مثل حزب التضامن.

والجدل الناشئ في سويسرا حول العلمانية صورة مطابقة للجدل في الجارة الأكثر رسوخا أي فرنسا. فالترويج للائكية laïcité في فرنسا ـ وهي النسخة الفرنسية من العلمانية ـ أصبح نفير حشد للنخبة السياسية والثقافية الراغبة في طمس حضور المسلمين وتقوية الدمج تحت قناع الحياد القانوني.

كانت اللائكية ذات يوم أداة ليبرالية لحماية الحرية الدينية وحرية الاعتقاد، فتم تحويلها إلى سلاح لاستهداف التعبير العلني عن الإسلام بحسبانه غير متسق مع القيم الفرنسية، مهما يكن تعريف هذه القيم مبهما. ففي السنوات الأخيرة يعبر كل من اليمين واليسار العلماني عن دعمهما لفهم للائكية أكثر ضيقا وتضييقا، وهو فهم يؤدي عمليا إلى إخفاء المسلمين ـ والمسلمات بصفة خاصة ـ من المجالات العامة.

بلغ الجدل الفرنسي حول اللائكية والزي الإسلامي ذروة الاحتدام في صيف 2016، حينما حظرت مدن عديدة في فرنسا ارتداء البوركيني. تم تقديم الحظر ـ الذي ألغاه مجلس الولايات منذ ذلك الحين ـ باعتباره جهدا واضحا لصد «الإسلام السياسي». وفي ذلك الوقت كان الرئيس السابق نيكولا ساركوزي قد أدان أردية السباحة التي تغطي الجسم كله واعتبرها «استفزازا» يناصر الإسلام الراديكالي. وبالمثل، فاز حظر البرقع الجديد في سويسرا من خلال إشارات إلى شبح «الإسلام السياسي». وقد أثبت هذا الاصطلاح أنه سلاح انتخابي فعال في أوربا كلها. المشكلة هي أن «الإسلام السياسي» فكرة مبهمة يمكن أن تعني أي شيء حينما يشار إليها تحت شعار مكافحة الإرهاب. فالبعض يرى تجاوزا في مجرد ارتداء زي ديني إسلامي واضح أو تناول للأكل الحلال أو حتى تبني معتقدات اجتماعية محافظة. ونتيجة لذلك، يمكن أن تؤول السلطات تفويضا ضد «الإسلام السياسي» تأويلا شديد الاتساع، بما قد يفضي إلى تقييد الحريات المدنية. ولنا مثال على هذا في مشروع القانون الجديد المتعلق بـ«تقوية المبادئ الجمهورية» في فرنسا.

والإبقاء على «الإسلام السياسي» مصطلحا سيء التعريف فيه خدمة للمصابين برهاب الإسلام (Islamophobes). ولقد كان السبب الأكبر لنجاح مبادرات حزب الشعب السويسري هو قدرة الحزب على إقناع قطاعات عريضة من الشعب بأن المسلمين الذين يختارون الظهور من خلال ممارستهم دينهم ـ سواء ببناء مئذنة أو ارتداء برقع ـ يحاولون «أسلمة» الشعب السويسري. ثم تأتي استفتاءات تستهدف طمس أي علامة للحضور الإسلامي في سويسرا، للإشارة ضمنا إلى حتمية خفاء المسلمين كي يتواءموا مع المجتمع السويسري. لكن أمثال هذا الحظر تخلق مفارقة حتمية: إذ أن استهداف المسلمين يزيدهم ظهورا، ولا يفضي إلى غير الإسهام في زيادة العنصرية ورهاب الإسلام. وهكذا دواليك.

في حين يتم استهداف المسلمين جماعة، فإن المسلمات المنقبات يحتملن العبء الأكبر من سعار رهاب الإسلام إذ يجري إظهارهن دائما في إطار ضحايا الأعراف الأبوية والاتباع الأعمى للأوامر الدينية. ولكن حظر البوركيني وحظر البرقع أبعد ما يكونان عن التحرير، فهما غالبا ما يقصيان المسلمات من الحياة العامة. ولكن سلطات وسياسيين وخبراء وجماعات نسوية معينة تزعم جميعا أنها راغبة في «تحرير» المسلمات دونما إشراك للنساء في تحرير أنفسهن. وحين يحدث أن يجهر أولئك النساء بأصواتهن، يقابلهن دوما انعدام الثقة في حرية اختيارهن، ومن ثم استقلالهن في آرائهن.

من المهم في هذا كله أن نتذكر أن عدد المسلمات اللاتي يخفين وجوههن ضئيل في أوروبا إلى حد التلاشي. في 2009، قدرت صحيفة لوفيجارو الفرنسية أن 2000 امرأة في فرنسا ـ من سكان يبلغ عددهم 65 مليونا ـ هن اللاتي يرتدين النقاب لأسباب دينية أو فلسفية. وفي سويسرا التي يبلغ عدد سكانها 8.5 مليون نسمة يقدر العدد بما بين 21 و37. وهذه أعداد ضئيلة إلى حد أنها لا تكاد تظهر على آلة حاسبة.

ولئن بدت ضآلة عدد مرتديات البرقع في أوروبا إحصائيا أمرا مفاجئا، فذلك لأن الأحزاب المناهضة للمسلمين من مختلف ألوان الطيف السياسي نجحت في تضخيم السكان المسلمين بغية استفزاز مخاوف الناخبين. في دراسة مسحية أجرتها شركة تاميديا الإعلامية السويسرية سنة 2017 قدَّر متوسط المشاركين أن المسلمين يشكلون 17.2% من السكان السويسريين. والواقع أنهم يمثلون 5.1% بحسب مكتب الإحصاءات الفيدرالي السويسري. فضلا عن حظر البرقع، يصعب التفكير في واقعة أخرى يدعم فيها الجمهور مبادرة حكومية تستهدف قلة من الشعب. لكن هذا منطقي في مناخ يعتمد النجاح السياسي فيه على الخوف - وإقناع الناخبين بأن «الثقافة التقليدية» في أوروبا (مهما تكن طبيعتها) تشهد تدهورا. إن ما ينبغي أن تدركه أوروبا هو أن الإفراط في استعمال الإسلام كورقة ضغط hypersecuritization لن يؤدي إلا إلى تعميق الفواصل والمخاطرة من ثم بالقيم الليبرالية التي تدعي أنها تناصرها. إن حظر النقاب في سويسرا دليل على أن القارة لم تر بعد مواطنيها المسلمين باعتبارهم أصحاب قدرة تامة على الحكم الذاتي وتقرير المصير وصياغة إرادة سياسية مستقلة. ولو أن أوروبا تريد حقا أن تنجو بنفسها من التدهور الثقافي، فالاعتراف بالمسلمين بوصفهم مواطنين كاملين هو نقطة البداية الواجبة.

 

كاتبة المقال باحثة دكتوراه في القانون المقارن بجامعة تولوز 1 كابيتول في فرنسا. يتركز اهتمامها البحثي على الحريات المدنية والقانون الدستوري وحقوق الإنسان في أوروبا وأمريكا الشمالية. فورين بوليسي في 10 مارس 2021