بشرى خلفان
بشرى خلفان
أعمدة

نوافذ: الحدائق السرية وثور بيكاسو

10 مارس 2021
10 مارس 2021

بشرى خلفان

في الفترة من الخامس من ديسمبر ١٩٤٥م، وحتى السابع عشر من يناير ١٩٤٦م، رسم بيكاسو جدارية مشكلة من إحدى عشرة لوحة لثور.

كانت هذه الجدارية التي أطلق عليها (درس من الأكاديمية إلى التجريد)، ما هي إلا متوالية من اللوحات قام بيكاسو فيها بتفكيك رسم للثور- الذي هو رمز ثقافي لأسبانيا- وإعادة توزيع كتلته، وصياغة رأسه وذيله، محتفظًا بأعضائه التناسلية كدليل على نوعه.

بسط بيكاسو رسم الثور، حتى وصل إلى تخطيط مبسط مكون من ستة خطوط متقاطعة، وقد راعى فيه دقة التوازن، وتوزيع الكثافة، والكتلة، ليقبض على جوهر ذلك الكائن بإيجاز شديد.

لكن لماذا أحكي لكم عن لوحة (الثور) لبيكاسو؟

لأنني أظن أن هذا ما يجب أن نفعله، كخطوة أولى عندما نريد أن نكتب قصة قصيرة.

نعم هذا ما يحدث عندما نقع على تلك اللحظة التي نتحول فيها إلى مجرد مسامات مفتوحة، إسفنجة ضخمة، نمتص رحيق الفكرة، ثم نبدأ في التفكيك والتجريد، حتى الوصول إلى المعنى الكامن خلف الكلام، وهذا أصعب جزء في العملية كلها؛ فالوصول إلى المعنى عملية شاقة، وقد يستمر أياما وأحيانا شهورا، ذلك أن المعنى مخاتل جدا ويتناسل بسرعة فائقة ليجد لنفسه أشكالا متعددة.

هذا، بالمناسبة، لا يحدث في القصة القصيرة وحدها، بل في كل الأفكار، التي تكون بحاجة لاشتغال عميق عليها، نعم، كل الأفكار تحتاج لمشرط بيكاسو الحاد، كل الأفكار تحتاج للتجريد؛ كي تصبح بؤرة المعنى؛ أي أن تكون الأهداف والرؤية أكثر وضوحا، حتى تتبلور وتنمو لتصبح تطبيقا جادا ومجديا على أرض الواقع.

الإدارة مثل الأفكار تحتاج لذلك المشرط الذي يخلصها من الزوائد والترهلات، زوائد الماضي، بكل تداعياته التاريخية، وترهلات الشعور بالعجز في مواجهة ما يحدث الآن، أو كيفية صياغة المستقبل.

فمن دون هذا المشرط الحاد، لن نستطيع الخروج من عباءة تكريس الأفكار البائدة في الإدارة، أفكار تتكأ على الحصار المعرفي، في عالم تقوده شبكة معقدة من الخوارزميات الهائلة، أو استخدام خطاب عام، غير مدرك لطبيعة المتلقي، بمصطلحات واسعة لا تحمل من المعنى إلا ضبابيته، أو طرح أنساق من المقاربات الواهية، التي سحب الزمن عليها طرف ردائه، هذه الاستراتيجيات، سواء كانت في الاقتصاد أو في التخطيط العمراني، أو المشروعات الثقافية والمعرفية، لن ينتج عنها إلا تقديم جيل كامل كأضحية، جيل مهزوم في انتمائه لمنظومة متخبطة، فيصبح أضحية تلتهمها نيران سوء الإدارة وقصر النظر، هذه النيران لن تخلف وراءها إلا الرماد، رماد ميت لا يرجى أن تتخلق منه أي حياة قادمة.