أفكار وآراء

(كمبليلا): الثقافة شغل العالم

06 مارس 2021
06 مارس 2021

عائشة الدرمكية -

في كتابه «الدراسات الثقافية. مقدمة نقدية» يقدم لنا سايمون ديورنج تعريفا «جديدا» للثقافة يعتمد على تلك المتغيرات الحديثة التي طرأت عليها سواء في الحقول الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أو ضمن الحقل الأكاديمي، التي منحت الثقافة أبعادًا ومعطيات ذات صيغ كلية قابلة للإنتاج والتطور، حيث جعل الثقافة «جملة من العمليات والتحولات والممارسات والتكنولوجيات والمؤسسات التي تنتج أشياءً وأحداثا (مثل الأفلام والقصائد...) يجري اكتشافها ومعايشتها وإعطاؤها معنى وقيمة بطرق مختلفة ضمن شبكة الاختلافات والتحولات غير المنظمة...».

إن هذا التعريف الذي قدمه ديورنج تحت عنوان (الثقافة اليوم) يحيلنا إلى مجموعة من المتغيرات التي طرأت على الثقافة ضمن سيرورة تطور المجتمعات والتسارع التقني الهائل وبالتالي التحولات المعرفية للمجتمعات، فبعد أن كانت الثقافة فعل مجتمعي صِرف، أصبحت اليوم بالإضافة إلى ذلك فعل مؤسسي، الأمر الذي يجعل منها (قوة) مركزية تربط بين الأفراد المبدعين، وبين المجتمع بوصفه مؤسسة قادرة على القيام بعمليات النقد والتجريب وبالتالي بناء هذه العمليات وتحويلها إلى إنتاج ثقافي.

ولعل تطور العلاقة بين الفرد المبدع والمؤسسة اليوم تأخذ أنماطا معرفية عدة من حيث التخطيط والتوجيه الثقافي -إن صح التعبير-، ذلك لأن الخطط والاستراتيجيات التي تعمل عليها الدول وفق منظور حضاري ما، هي المسؤولة عن التطور الثقافي والإنتاج الفكري الذي سيُتاح للأفراد وفق سياسات ثقافية معينة. والحال أن تلك الاستراتيجيات تخضع على الدوام لمجموعة من المعطيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وبالتالي الأهداف التنموية التي تنشدها الدول على المستوى المؤسسي الوطني أو الدولي.

ولأن الثقافة بتعريفاتها الحديثة لم تعد تنشغل بترسيخ الهُويات الوطنية -على أهمية ذلك- بقدر انشغالها بالكيفية التي يمكنها أن تستفيد من تلك الهُويات في إنتاج معارف قادرة على المضي قدما في التنافس والصراع العالمي على الإنتاج الثقافي المعرفي، وبالتالي فإن الثقافة لا يُنظر إليها اليوم بوصفها (ترفيها) وإنما إنتاج إبداعي تنموي، ولعل مايكل دينينج في كتابه (الثقافة في عصر العوالم الثلاثة) قدَّم مقاربة جديرة بالاهتمام عندما تحدث في الفصل المعنون بـ(من النص إلى الشغل. نحو نظرية عمَّالية للثقافة)، عن مجموعة من وجهات النظر بين (الشغل) و (الثقافة)، في محاولة الكشف عن أهمية الثقافة بوصفها إبداعا في المنتج الاقتصادي، وفي هذا يذهب دينينغ إلى أن رأي (هاري بريفرمان) في مقاله (العمل ورأس المال الاحتكاري) -والذي اعتبر أن «الثقافة هي نتاج العمل وثمرته، وهي جزء من عملية الشغل ذاتها»، إنه أقرب تلك المقاربات التي اعتنت بالإبداع الفكري والإنتاج العملي أي (الشغل)، بوصفهما مصطلحين متلازمين.

إن هذا التصور يجعل من الثقافة أساسًا إبداعيًا لأي عمل، إنها (وحدة التصور) -بحسب دينينج- التي تؤسس العمل المُنتج قبل تنفيذه، ولعل هذا ما يجعل الثقافة قوة مركزية ليس على المستوى المجتمعي وحسب بل أيضا في إنتاج اقتصاديات ثقافية تسهم مباشرة في التطور الحضاري الاقتصادي والابتكاري في المجتمعات.

الأمر الذي سيكشف الطاقات الإبداعية للأفراد من ناحية وقدرة تلك المجتمعات على توظيف هذه الطاقات وتوجيه إنتاجها وفق التخطيط التنموي القائم على المعرفة.

يبرز ديورنج وفق دراسته الخاصة بالدراسات الثقافية نوعا من الثقافات التي تشغل العالم منذ أكثر من قرنين وهي (الثقافة المنتجة) التي يقرنها بـ«زيادة سريعة في الحضور الاجتماعي للثقافة اقتصاديًا وحكوميًا ومفاهيميًا (وبالتالي) زيادة عائدها الإيجابي...»، أي زيادة في مردودها الاقتصادي، وهو في ذلك يلجأ إلى رصد المردود فيما أطلق عليه (مجتمعات الثقافة)، فازدياد النسبة المئوية للعمال في الصناعات الثقافية بصورة ملحوظة في العقود المنصرمة، يجعل من هذه المجتمعات مسهمة بشكل مباشر في تشغيل القوى العاملة وليس في الإبداع الفردي وحسب.

ولهذا فإن (الثقافة المنتجة) -بحسب ديورنج- تشير إلى اتجاهين أولهما: (المشروع) الذي يتأسس ضمن مجموعة من المعطيات الاجتماعية والاقتصادية التي تظهر في أشكال إبداعية ثقافية، وثانيهما: (الريادة) التي تجعل من المشروع الثقافي رائدا باعتباراته الإبداعية والابتكارية، فكل مشروع ثقافي قديمًا أو حديثًا يتأسس ضمن مجموعة من الأشكال الإبداعية مهما كان صغره، هكذا سنجد الابتكارات الحرفية وصناعات الكِتَاب وصناعات الفنون غيرها، التي أسست مشروعها الريادي المستقل وبالتالي أنتجت ما يسميه ديورنج (المهنة) بالمفهوم الإبداعي والصناعي، وأصبح لكل من تلك الصناعات الإبداعية منتجوها وعمالها ومسوقوها وسوقها وهكذا..

ولعل ارتباط الثقافة بأشكالها وأنواعها المختلفة بالتطور المعرفي والتقني من ناحية والاقتصادي من ناحية أخرى جعلها في تنامٍ مستمر، الأمر الذي أسس منذ القدم للأسواق الثقافية ليست الأدبية منها وحسب بل أيضا ما نطلق عليه (الأسواق الشعبية) التي تعرض المنتجات الإبداعية للأفراد والجماعات، من خلال تلك المعروضات الحرفية بأنواعها، أو تلك الفنون التي تُقدم للزائر بل حتى المقاهي والمطاعم ذات الطابع التقليدي. كلها أنماط ثقافية تقدمها الدول بوصفها منتجات ذات هُوية ثقافية وطنية.

ولهذا فإن تنامي الأسواق الثقافية وتطورها في أشكال وأنماط حديثة إنما يرتبط بالتطور الذي تشهده المجتمعات تقنيا ومعرفيا، لذا فإن الصناعات الثقافية تأخذ اليوم أشكالا معرفية وإنتاجية عدة تسهم في الدخل الوطني للدول؛ فقد اعتبرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلم (اليونسكو) في تقريرها لعام 2014 أن الثقافة مصدرًا قويًا للقضاء على الفقر، باعتبار أن «الصناعات الثقافية والإبداعية هي من بين أسرع القطاعات الاقتصادية توسعا في البلدان الصناعية والبلدان النامية على حد سواء» -بحسب ما ورد في التقرير-، خاصة الصناعات الثقافية والإبداعية المرتبطة بـ(القطاع السمعي والبصري ووسائط الإعلام الجديدة والفنون الاستعراضية والنشر والفنون البصرية)، التي ستشكل قطاعات حيوية وستوِّلد نطاقات واسعة لفرص العمل للشباب.

إن الصناعات الثقافية اليوم بفضل التطور التقني والاستراتيجيات التي تعدها الدول للارتقاء بهذه الصناعات ودعم العاملين بها، أصبحت أحد أهم الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالإبداع والابتكار، والتي ستسهم مباشرة في دعم الوظائف الإبداعية المستقبلية، فبحسب تقرير اليونسكو نفسه ووفقًا للبنك الدولي فإن الثقافة تساعد «... على الحد من النسبة المئوية للسكان الذين يعيشون على أقل من 1.25 دولار في اليوم إلى 3 في المائة بحلول عام 2030»، الأمر الذي سيسهم في دعم دخل الفرد وبالتالي دخل الدول.

ولهذه الأهمية التي توليها الدول والمنظمات للثقافة وما يرتبط بها من صناعات يُعوَّل عليها في مستقبل التنمية واستدامتها من ناحية وتعزيز أنماط الابتكار والإبداع من ناحية أخرى، فإن سلطنة عمان واحدة من تلك الدول الطامحة إلى تطوير الصناعات الثقافية بحسب رؤية 2040، وما يرتبط بها من أولويات لتحقيق الأهداف المنشودة المتمثلة في (مجتمع إنسانه مبدع)، و(بيئة عناصرها مستدامة)، و(اقتصاد بنيته تنافسية) و(دولة أجهزتها مسؤولة)، والتي ستحقق رؤية عمان في تأسيس (مجتمع معرفي ممكَّن)، فإننا من خلال هذه السلسلة من المقالات سنحاول مناقشة تلك الأهداف المتعلقة بالإنتاج الثقافي في عُمان والصناعات الثقافية فيها، من خلال عرض واقع الأنشطة الثقافية وآفاق الصناعات الإبداعية والابتكارية المرتبطة بالثقافة والتحديات التي تواجهها، ماضين إلى المأمول تحقيقه خلال العقدين القادمين.