أفكار وآراء

تأملات في التعليم عن بعد

22 فبراير 2021
22 فبراير 2021

حمود بن ناصر بن راشد المنذري -

في ضوء التوالد المتسارع للمعلومات والتفرّع المتراكم للتخصصات العلمية وتزايد المؤهلات لحاجة سوق العمل أصبح من الصعب على أساليب التعليم التقليدي أن تزوّد المتعلمين بمتطلباتهم المعرفية بالسرعة الكافية لمواكبة هذه الطفرة المعلوماتية، ومع ثورة تكنولوجيا المعلومات التي اقتحمت معظم أشكال حياة الإنسان ساعدت تقنياتٌ عديدة في ظهور إستراتيجيات تعلُّمية وتعليمية مبتكرة اختصرت الكثير من الأوقات والجهود على المعلم والمتعلم، وأصبح دمج التكنولوجيا في العملية التعليمية توجهًا عالميًّا.

ورأس هذه المساعي استراتيجية التعليم عن بعد (Distance education) الذي أغنى عن الحاجة لاتحاد المكان بين المعلم وطلابه، في مقابل التعليم التقليدي (traditional education) الذي يكون فيه المعلم وطلابه تحت سقف واحد.

في بداية الألفية الجديدة صرّح التربويان ميهروتا وماك جاثي أن التعليم عن بعد أو التعليم الإلكتروني ليس مستقبلا متوقعا ينبغي على الجامعات والكليات أن تتحضر له، بل هو واقع فعلي، يوفر فرصا وتحديات للمؤسسات التعليمية، واقع يوفر للطلبة خيارات واسعة في اختيار المكان والزمان والكلية والمعلم، وواقع جعل التعليم متاحا لعدد هائل ومتزايد من الأفراد، إنه باختصار نقلة نوعية ومسلك غير معهود لدفة التعليم.

وإذا كان هذا هو الحال في بداية الألفية الثالثة فإنه بلا شك مع تفشي الجائحة الجديدة (COVID19) أصبح التعليم عن بعد أمرا أكثر إلحاحا بل لا مفر منه لأغلب المؤسسات التعليمية إن لم يكن كلها، فالتعليم لا يمكن بحال أن يتوقف، و(التعليم عن بعد) بتجاوزه للحدود الجغرافية والزمانية كان هو الاستراتيجية الوحيدة التي أنجدت الميدان التعليمي من توقف خطير العاقبة في ظل الأزمة العالَمية.

ورغم هذا الترسخ لأهمية نظام التعليم عن بعد وتبنيه من قبل الجامعات الكبرى إلا أن تساؤلات ومخاوف لا تزال تُطرح من قبل النقاد والمشككين إزاء الجودة الأكاديمية لهذا النظام ومدى كفاءته في أداء المهمة التعليمية والتربوية، حيث تصر بعض الآراء على أن التفاعل الحي القريب جزءٌ أصيل لا ينفك عن العملية التعليمية والتربوية، ليتمكن المعلم من قراءة «جوَّ الفصل» في عيون الطلاب وضبط تشتتهم ومخاطبتهم بأسلوب جماعي محركا دفة شرحه بما يحاكي استجاباتهم وردود فعلهم، وبالنظر لهذا التصور فإنه من الجلي القول أن هذا المستوى من التعاطي مع الطلبة إنما يتوجه لطلاب المراحل الأولى، أما في مراحل البكالوريوس والدراسات العليا فالطالب شخص راشد ليس بحاجة لهذه الأساليب التربوية من مراقبة سلوكه وضبط انتباهه، بقدر ما هو بحاجة للأساليب المعرفية التي تحقق له الفهمَ العميق لمجال دراسته والتمكنَ من التطبيق العملي لأهدافها.

والحقيقة أن التعليم عن بعد بسبب طبيعته الإلكترونية يطغى على التعليم التقليدي في توفير وسائل تقنية تفاعلية لا حصر لها تساعد المعلمين في إيصال المعلومة وفق الأساليب المعرفية المناسبة لأهداف الدراسة، فضلا عن إمكانية استدعاء هذه المعلومات في أي وقت كون المحاضرات مسجلة مرئيًّا.

إن أفضل ما في التعليم عن بعد أنه يمكنك الدراسة من أي مكان وفي أي وقت، لا يهم في أي رقعة من البلاد أنت تستطيع الدراسة في شتى المؤسسات التعليمية في العالم والوصول للمواد التعليمية بكل سهولة.

كما أنه يوفر للإنسان الحاجة للتنقل والتعامل يوميا مع ازدحام الطرق الذي يأخذ بلا شك الكثير من وقته وماله وطاقته في سبيل الوصول للمؤسسة التعليمية، في التعليم عن بعد كل ما يحتاجه المرء حاسبٌ آلي واتصال بالإنترنت وسائر الكلية ستكون في منزله وبين يديه.

ونظرا لطبيعة التدريس في التعليم عن بعد فقد لا تحتاج المؤسسات التعليمية إلى الالتزام بعقود طويلة الأمد مع المعلمين؛ مما يعطي للمؤسسة مدى أوسع لانتقاء أفضل المعلمين وتغييرهم وفق فاعلية الأداء والكفاءة، كما أن إمكانية استدعاء المحاضرات التي يتيحها هذا النظام تسهل عملية تقييم الأداء، ناهيك عن قابلية استجلاب معلمين من شتى أنحاء العالم كون البعد الجغرافي لا يشكل عقبة أمام هذا النظام؛ مما يعطي شريحة واسعة من الخيارات في كل التخصصات والفنون.

وبالحديث عن مميزات التعليم عن بعد وأهميته العصرية لا يسعنا إلا أن نعرج على التجربة الناجحة التي انتهجت هذا النظام وكانت الأولى من نوعها في السلطنة؛ أقصد بذلك تجربةَ مركز التعليم عن بعد بكلية العلوم الشرعية الذي يقدم برنامجا دراسيًّا يهدف إلى تدريس العلوم الشرعية بأسلوب التعليم عن بُعد، باستخدام أحدث تقنيات التعليم الإلكتروني. وقد انطلق البرنامج بعد حصوله على موافقة مبدئية من وزارة التعليم العالي في 2009م بقبول أول دفعة من الطلاب في ديسمبر من العام الدراسي 2013م/ 2014م ويمنح البرنامج درجتي البكالوريوس في تخصصي الدراسات الإسلامية والفقه وأصوله من وزارة التعليم العالي، بعد اجتياز الطالب ما يزيد عن 140 ساعة دراسية (8 فصول دراسية)، ويمنح درجة دبلوم العلوم الشرعية بعد اجتياز 75 ساعة دراسية (5 فصول دراسية) كما يمنح درجة الماجستير في تخصصي الدراسات الإسلامية والفقه وأصوله باجتياز 32 ساعة دراسية (4 فصول).

ويستهدف البرنامج الراغبين في استكمال مسيرتهم العلمية من الموظفين المتقاعدين وربات البيوت من الحاصلين على الدبلوم العام (الثانوية العامة) وتحول ظروفهم العملية والاجتماعية دون إمكانية التحاقهم بالتعليم النظامي، كما يستهدف الحاصلين على مؤهلات جامعية ولديهم الرغبة في الاستزادة من العلوم الشرعية وتقوية السيرة الذاتية. وختامًا؛ فإنه لا يملك المرء إلا الإشادة بهذه الجهود المبشرة التي تحمل على عاتقها نشر رسالة العلم بأحدث الوسائل وطرق التعليم الإلكتروني عن بعد، ولربما تكون مثل هذه التجارب وغيرها النواة لجامعة إلكترونية مستقبلا لتخصصات عديدة مما يتواءم مع توجيهات هذا النوع من التعليم.