mahmood2
mahmood2
أعمدة

جرة قلم :اقتصاد النخلة وخيالها

17 فبراير 2021
17 فبراير 2021

محمود الرحبي -

تحدثت في مقالي السابق من «جرة قلم» عن أهمية تعميق الاستثمار في تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها، وأقول: «تعميق الاستثمار»، كون النواة الأولى لهذا المشروع موجودة أصلا، وذلك سيكفينا مؤونة الانطلاق من فراغ أو البدء من الصفر، في إطار جدّية البحث عن موارد بديلة عن النفط ومشتقاته البتروكيماوية التي تلعب بها رياح عالمية وتجعل المعتمد عليها في حالة توتر وقلق، بينما بقليل من الالتفات إلى ثرواتنا الطبيعية والثقافية وتطويرها، نستطيع أن نقف على بدائل مستقبلية لا يمكن الاستهانة بها.

مثلا في ما يتعلق بتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها، لدينا نواة قائمة لهذه الفكرة، متمثلة في كلية السلطان قابوس لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها بولاية منح، هذه الكلية من المهم تعزيزها وتثوير مجموعة من الأفكار من داخلها، وعلى سبيل المثال ما ذكره سابقا الباحث عبدالملك الهنائي في صقل جزئية مهمة تتعلق بفونيمات اللغة العربية، يمكن جعل هذا الموضوع الدقيق ميزة تتميز بها هذه الكلية.

ومن الأمور التي يمكن الالتفات إليها كذلك هو النظر في مدى الترويج لهذه الكلية خارجيا في الدول غير العربية، وذلك عبر السفارات أو الجهات الإعلامية. إذا قامت الدولة بالاهتمام بذلك جيدا، ووجد الأمر استجابة حقيقية، يمكن بعد ذلك الحديث عن فكرة توسعة رقعة هذه الكلية ليكون لها رافدا، سواء في منح نفسها أو في مكان قريب، حيث إن اختيار منطقة الداخلية لا يخلو من نباهة، كون أن لغة الضاد فيها هي الأنقى.

2

استضاف النادي الثقافي، قبل أيام، الدكتور عبدالله الغافري، الباحث في شؤون الزراعة، في محاضرة بدت مختصرة رغم طولها، بحيث شعرنا بسهولة أن الوقت المحدد لها -رغم تمدّده في الزمن وتقلبه في الأحوال- كان غير كافٍ لملامسة جميع التفاصيل المتعلقة بـ«عمّتنا» النخلة..

وقد بدا الغافري متفقّها في شوؤن النخيل، عالما بأنساغها وجذورها وأحوالها وشؤونها، بصورة جعلته يتنقل بسلاسة بين مجموعة من المواضيع المرتبطة بها، بما في ذلك نصوص أدبية جالت في ظلال نخلتنا، شعرا وقصة وأمثالا وغناء.

وقد فتحت هذه المحاضرة، في وقت لاحق على عرضها، سجالًا عبر أثير الإذاعة العمانية، حيث تحدّث مرتين في برنامجين مختلفين، في كل مرة كان يأتي بتفاصيل جديدة، وأؤكد هنا أن مجال النخلة عند الباحث الغافري ثريّ بثراء هذه الشجرة المبارَكة التي ارتبطت طويلا بحياة العمانيين وشكّلت مادة متكاملة لحياتهم وتعاملهم على امتداد العصور، وقد أورد الغافري في هذا السياق عبارة لا تخلو من دلالة حين قال: «إن تاريخ النخلة يعود إلى بداية وجود الإنسان في عمان، والحديث هنا عن آلاف السنوات».. معنى ذلك أن العلاقة بين الإنسان والنخلة في عمان علاقةٌ وُجودية ومصيرية؛ علاقة ترابط ومزاوجة، لا يستقيم الواحد منهما أو ينتصب إلا بوجود الآخر، ويمكن أن أستحضر هنا، كذلك، الصفات المشتركة بين الإنسان والنخلة، والتي أورد الباحث مجموعة منها؛ صفات تكوينية وأخرى طباعية وثالثة مكتسَبة. فقد اكتسب الإنسان من النخلة طباعا كذلك.. فمن يراقب حياة الفلاح وطريقة تعامله معها سيخرج بنتيجة أن النخلة ذلك العود السّامق، يقدّم هدايا أخلاقية وسلوكية للمجتمع والمحيط، وأتذكر هنا -كمثال عابر- البيت الشعري:

كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعا

يُرمى بصخر فيلقي أطيب الثمر

وكان من أهمّ ما ذكر الغافري، كذلك، المعلومة المفرحة، التي يمكنها أن تكون بوابة للتنافس وليس للرضا بالحاصل، وهي أن عمان تحتل المرتبة الثامنة عالميا في ما يمكن أن يسمى بـ «اقتصاد النخلة»، مع تأكيده أن هناك مجالات كثيرة لم تُستثمر فيها النخلة بعد في عمان، وأن الطريق طويل، لو وجدت العزيمة في استثمار هذا المصدر الحيويّ للثروة.

ولكن «أطويل طريقنا أم يطول!؟» كما قال المتنبي يوما.. هذا ما ستثبته الأيام المقبلة.

لقد ترك لنا الأجداد الكثير من الموارد التي لا يحتاج منا تطويرها سوى البناء عليها؛ ففي كثير من المجالات لن نحتاج إلى أن نبدأ من «الصفر»، وإنما إلى تحريك الأدمغة وإبداع ملكات الخيال.

لقد بدأت دول كثيرة من الصفر في ما يتعلق باقتصاد النخلة، لكنها قطعت شوطا متقدما في استثمارها، بل إن بعض هذه البلدان اقتبست من نخيلنا جذوة شعلته، وذهب بها بعيدا في استثمارها بمشاريع مربحة.

ولكنْ طالما أننا في محل متقدم في الترتيب العالمي في هذا المجال فهذا دافع أيضا للتفاؤل، والأهمّ أنه دافعٌ للمنافسة في أفق أن نحتلّ -في القريب- المركز الأول في هذا المجال، ولمَ لا؟..