أفكار وآراء

الصراعات في إفريقيا والتحديث في آسيا ‬

26 يناير 2021
26 يناير 2021

عوض بن سعيد باقوير - صحفي ومحلل سياسي -

ثمة تساؤلات حقيقية خلال نصف القرن الماضي وربما ما قبله، ما سر التقدم التنموي والاقتصادي والتكنولوجي في دول جنوب شرق آسيا وبين تواصل الصراعات والحروب وتفشي الفساد والانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية في عهود ما بعد الاستقلال وما المحددات الأساسية التي اتسمت بها نظم الحكم وأيضًا التدخلات الخارجية ما قبل مرحلة الاستعمار وأخيرا عجز الأنظمة الإفريقية مع بعض الاستثناءات المحدودة في استغلال الثروات الطبيعية والبشرية والمواقع الاستراتيجية علي البحار المفتوحة في إيجاد نهضة تنموية حقيقية.

إن دول جنوب شرق آسيا شهدت خلال العقود الستة الماضية حروبا مدمرة ووجود الاستعمار بكل أشكاله وكانت تلك الدول شبه مدمرة حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مثل اليابان، كما أن الحروب التي شهدتها دول كالفلبين وانفصال سنغافورة عن ماليزيا والحرب الكورية في بداية عقد الخمسينات وحرب فيتنام الكارثية ضد الاحتلال الأمريكي التي تواصلت على مدى عقد، وأيضًا الحرب في الفلبين ولاوس وكمبوديا لم تمنع تلك الدول -قليلة الموارد الطبيعية قياسا بالقارة الإفريقية- من النهوض مجددًا وإيجاد أنظمة سياسية تركز على الاقتصاد والتكنولوجيا حتى أصبحت خلال نصف قرن نمورًا اقتصادية حقيقية يشار لها بالبنان، في حين ظلت القارة الإفريقية لعقود تعاني ولا تزال وربما كان الاستثناء الذي ظهر مؤخرا دوله رواندا وعاصمتها كيجالي هذا النموذج الإفريقي أصبح يعطي الأمل نحو تنمية حقيقية في القارة السمراء.

بين أنموذجين

لا شك أن الأنموذج الآسيوي يتفوق بمراحل على الأنموذج الإفريقي وهذا يعود إلى مقاربة سياسية حدثت في دول جنوب شرق آسيا وهي الاستقرار السياسي بعد تلك الحروب المدمرة وكانت هناك إرادة سياسية بأخذ العبر والدروس من نتائج تلك الحروب الأهلية وحتى الصراعات الخارجية، وبدأت خطط تنموية واضحة انطلقت من عقد الستينات من القرن الماضي وبدأت تلك الخطط خاصة على صعيد تطوير التعليم الذي كان المحرك الأول للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في جنوب شرق آسيا، كما كان هناك تخطيط لدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ودعم العمل الحر علاوة على ابتعاث آلاف الشباب إلى أرقى الجامعات في الغرب وحتى اليابان كما كان التركيز على التصنيع هو أبرز التحول نحو الإنتاج الكبير وبالتالي التصدير كما تم بناء البنية الأساسية من مطارات وموانئ وتشريعات محفزة للاستثمار الخارجي، وهناك الآن عدد كبير من مواقع الشركات العالمية في تلك الدول على صعيد الصناعات الثقيلة كالسيارات والحديد والصلب والإلكترونيات، كما صاحب ذلك استقرار سياسي وعدم الرجوع إلى الصراعات والحروب والتركيز على التنمية والإنسان، ومن هنا نجح النموذج الآسيوي إلى حد كبير وأصبحت دول كماليزيا وسنغافورة وتايلاند وكوريا الجنوبية وإندونيسيا وفيتنام -الصاعد الاقتصادي الجديد- تتصدر المشهد الاقتصادي بمؤشرات جيدة وارتفاع كبير في الناتج المحلي الإجمالي، كما أن مسألة الانقلابات العسكرية اختفت وأصبحت هناك انتخابات وبرلمانات مستقرة وانتقال سلمي للسلطة ولعبت منظمة الأسيان خلال العقود الأخيرة دورا محوريا على صعيد التعاون في المجالات المختلفة وحتى حل أي خلافات قد تنشأ بين تلك الدول مما جعل دول جنوب شرق آسيا تنجح في أنموذجها التنموي إلى حد كبير.

إفريقيا والصراعات

كان من المتوقع أن تشهد القارة الإفريقية تنمية شاملة وقاعدة تصنيع تنطلق من مواردها الطبيعية الكبيرة وأيضا في مجال الزراعة والأسماك وحتى السياحة خاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال ولكن الذي حدث خلال العقود الستة وعكس ما حدث في جنوب شرق آسيا اندلعت الحروب الأهلية ونجحت الشركات الغربية في استغلال الثروات في تلك الدول وتوالت الانقلابات العسكرية لمصالح شخصية مدعومة من شركات النفط في المقام الأول كما برزت مسألة الصراعات على الحدود وأخيرا تسللت إلى الصحارى الإفريقية ظاهرة الإرهاب خاصة في دول جنوب الصحراء والساحل مثل مالي وتشاد والآن ليبيا بعد انهيار النظام في ليبيا عام 2011م.

ومن هنا شهدت القارة الإفريقية أو معظمها صراعات متواصلة حيث وجود منظمات إرهابية على طول الصحراء، كما استنزفت تلك الدول مواردها في تلك الحروب وغابت الرؤية المتكاملة لبناء تنمية شاملة وتطور اقتصادي، كما حدث في الأنموذج الآسيوي.

ومن هنا فنحن أمام أنموذجين صارخين في البناء والتطور والإبداع ومن خلال مشاهدة الأحداث اليومية من خلال شبكات التلفزة العالمية يمكن تحليل ما يجري هنا وهناك حيث المدن المزدهرة وناطحات السحاب في طوكيو وكوالالمبور وجاكرتا ومانيلا وبانكوك وترى الأوضاع المتردية في أجزاء كبيرة من القارة الإفريقية حيث ارتفاع معدل الفقر واستمرار الصراعات الداخلية وتدني المستوى المعيشي وانتظار المساعدات الطبية. وفي مجال الغذاء ومن هنا فإن إفريقيا رغم إمكاناتها الكبيرة إلا أن تلك الدول فشلت بشكل صريح؛ فعندما تذكر إفريقيا يرتبط ذلك بالفقر والمرض وعدم توفر مياه الشرب النظيفة في أجزاء كبيرة من مساحتها المترامية الأطراف. إن دول جنوب شرق آسيا بها مشكلات ومع ذلك فنحن نتحدث هنا عن الصورة الكلية للقارة الإفريقية، ولعل ظهور أنموذج رواندا فتح العيون على إمكانية أن تنهض إفريقيا بدليل أن رواندا حققت مستويات جيدة على صعيد جذب الاستثمار وهناك بنية أساسية جيدة بدأت في التشكل. ويبدو لي أن أنموذج رواندا ينبغي أن يكون حافزًا للانطلاق نحو التحديث والتنمية الشاملة وهذا الأمر يمكن تحقيقه إذا توفرت الإرادة السياسية والانفكاك من الشركات الغربية التي تستغل طموحات عدد من السياسيين والعسكريين الطامحين للسلطة وهذا ما يجعل من حدوث الانقلابات العسكرية أمرا مألوفا خلال العقود الأخيرة وقد تجد ضابطا برتبة صغيرة أصبح مسيطرا على السلطة.

إن القارة الإفريقية تحتاج إلى إصلاحات سياسية شاملة وإلى الحوكمة والشفافية، كما أن الاتحاد الإفريقي ينبغي أن يلعب دورًا أكبر في إخماد الصراعات التي قضت على أحلام ملايين الشباب في إفريقيا وأصبحت الهجرة بكل مخاطرها هي حبل النجاة من المشكلات التي تعاني منها المجتمعات الإفريقية.

الإمكانيات والإرادة

إن إفريقيا بها إمكانات طبيعية وبشرية كبيرة تفوق دولا كثيرة ومع ذالك نجح الأنموذج الآسيوي وبقت دول القارة في صراعاتها حيث التوتر الآن بين السودان وأثيوبيا وهناك مشكلة الصحراء الغربية وهناك مشاكل الحدود بين أكثر من دولة إفريقية وهناك منظمة بوكو حرام في شمال نيجيريا وهناك القاعدة وداعش على طول الساحل وجنوب الصحراء.

ومن هنا فإنه في ظل عدم إيجاد استراتيجية ورؤية واضحة لإفريقيا فإن مشكلات القارة وعذابات أبنائها سوف تتواصل ونرى شواطئ البحر المتوسط تشهد قصص الحرمان والموت للكثير من الشباب الإفريقي نحو المستقبل.

إن الإرادة السياسية للحكومات والمجتمع المدني في إفريقيا لا بد أن تناقش أوضاع القارة الإفريقية فالعالم يتجه وبقوة نحو التقنية والاقتصاد الرقمي ولا بد لإفريقيا أن تواكب هذه الطفرة العلمية وأن لا تظل مجرد مواد خام يتم استغلالها من الشركات الغربية ومن دول أخرى، ومن هنا ينبغي لإفريقيا أن تنتفض على الفقر وعلى الأوضاع السلبية التي تعاني منها شعوبها وأن تنظر إلى تجربة دول جنوب شرق آسيا بمنطق موضوعي وعقلاني كما أن أنموذج روندا الإفريقي ينبغي أن يكون حافزًا لانتشال قارة مهمة وحيوية من وضعها الحالي لنرى انطلاقة لأسود إفريقيا، كما حدث بالنسبة لنمور جنوب شرق آسيا.