am13
am13
أعمدة

هوامش ومتون :التداوي بالقوافي !

20 يناير 2021
20 يناير 2021

عبدالرزّاق الربيعي -

قد يكون ليس من المألوف أن يذهب المريض الذي يعاني من الاكتئاب، واليأس إلى إحدى الصيدليات، ويسلم الصيدلاني وصفة الطبيب، الذي يراجعه، وبعد قليل، يأتي له بديوان لنزار قباني، أو سعيد عقل، أو لميعة عباس عمارة، يعقب ذلك بشرح لكيفية أخذ العلاج، وأوقاته!

هذه الفرضيّة التي تبدو بعيدة عن واقعنا، صارت واقعا مألوفا في عاصمة أوروبية كبرى كلندن، بعد أن شهدت افتتاح صيدليّة تقدّم لمرضاها وصفات للعلاج بالشعر!

ولو نقّبنا جيدا، في تراثنا الشعري، لوجدنا أنّ قيس بن الملوح كان يتداوى بالشعر، وقوله في قصيدته يشهد على ذلك:

تذكّرت ليلى والسنين الخواليا

وأيّام لا نخشى على اللهو ناهيا

فما أشرف الأيفاع إلّا صبابة

ولا أنشد الأشعار إلا تداويا

وبالطبع، ليس شرطا أن يصف الطبيب المداوي ديوان شعر كامل، إذ يمكن الاكتفاء بقصيدة، فعلى سبيل المثال، يصف طبيب لمريضٍ يشعر باليأس قصيدة»ابتسم» التي كتبها إيليا أبو ماضي :

قال: السماء كئيبة وتجهما

قلت :ابتسم يكفي التجهّم بالسما

قال: الصبا ولّى، فقلت له :ابتسم

لن يرجع الأسف الصبا المتصرّما

قال : الليالي جرّعتني علقما

قلت: ابتسم ولئن جرعت العلقما

أو قصيدته « أيّها الشاكي» التي حفظناها في المناهج المدرسيّة المقرّرة:

أيّها الشاكي وما بك داء

كيف تغدو إذا غدوت عليلا

ما أتينا إلى الحياة لنشقى

فأريحوا أهل العقول العقولا

ويختمها بنصيحة ذهبية» كن جميلا ترَ الوجود جميلا»

أو ببيت شعر واحد مثل قرص مسكّن يكون كفيلا بتخفيف الألم كبيت الشابّي:

خذ الحياة كما جاءتك مبتسما

في كفّك الغار أم في كفّك العدم

وبعد أن تنتهي المدة اللازمة للعلاج من الجميل أن يمرّ المريض بباب الصيدلية بروحية أفضل، وابتسامة عريضة، شاكرا ملهمات الشعر، وربّات الخيال، والإلهام، بنات زيوس، اللواتي قرأنا عنهن في الميثولوجية الإغريقية القديمة.

يقودنا خبر الصيدلية اللندنيّة الشعريّة، لسؤال هو: هل أن الشعر داء؟ أم دواء؟

البعض يرى أنه داء، ولو لم يكن كذلك لما طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته وكانت له أسبابه، فقد اعتبر الشعر مفسدا لأخلاق الشباب، ومثيرا للانفعالات، والقلق النفسي، بل في المسرحيات الشعرية الكوميدية، يقدّم تصورات عن الإنسان قد تكون أدنى مما هو عليه في الواقع، لكن البعض يرى العكس، فالشعر، بنظره، دواء للأسقام، كما قرأنا في بيت قيس بن الملوّح، وفي ساعات الألم، قد يلجأ هذا النوع من الناس للشعر، ليخفّف من أوجاعه، ويجدّد طاقته الروحية، ويجعله مقبلا على الحياة بشهيّة، وبمزاج أفضل!

عن أمثال هذا التأثير، حدّثني الشاعر الراحل سليمان العيسى، قائلا إنه كان ذات يوم في كندا، خلال زيارة لولده، فذهب برحلة ضمن فوج سياحي، وحين بلغ بالمشاركين بالرحلة التعب، وكانوا من الأجانب، عادوا إلى الحافلة، وإذا بالمسؤولين عن الرحلة يلقون على مسامعهم قصائد، وبعد انتهائهم منها، عاد النشاط، والحيويّة مجدّدا مرّة أخرى للمشاركين، كما أكّد رحمه الله!

من هذا، فلا غرابة أن يدخل الشعر طرفا في العلاج، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل مثل هذا النوع من الشعر متوفّر في شعرنا العربي؟ وإذا توفّر ، فكم تبلغ نسبته؟ من حيث إنّ طابع الشعر العربي الحديث سوداوي، كون الشعر مرآة صافية للواقع العربي المأزوم، فمن آلام السيّاب، ومعاناته، في حياته القصيرة، إلى أوجاع نازك الملائكة، وعبدالوهاب البياتي، بل إن هذا يفاقم الأوضاع عندما نقرأ نصوصا متخمة بالقلق، والأسئلة الوجودية، وحينها يمكننا أن نتساءل : كيف يمكننا التداوي «بالتي كانت هي الداء «؟

ومن هنا، ربما الجانب العلاجي متوفّر أكثر في الشعر الغربي المنفتح على الطبيعة الجميلة، الساحرة، والأفق الواسع للحريّات الشخصيّة، واحترام الفرد، والتنظيم العقلاني لعلاقته بالمجتمع، والسلطة، ومعالجة الأزمات وفق القانون، وهذه الأمور ما زالت عالقة في مجتمعاتنا التي ينوء فيها الفرد بالعديد من القيود، والأزمات، والمشكلات الاجتماعيّة، ولم تنجح الحكومات في معالجتها، مع تبدّل الأنظمة، واختلافها، ورغم ذلك ستظلّ عيوننا شاخصة في الأفق، ننتظر اليوم الذي سنقرأ به قصائد تصلح أن تكون علاجا يشفي العليل، ويداوي الجريح !