أفكار وآراء

روح عمان

10 يناير 2021
10 يناير 2021

خميس بن راشد العدوي -

11 يناير 2020م.. كان يوماً حزيناً لعُمان، فقد فجعنا بنبأ رحيل أحد عظمائها؛ السلطان قابوس بن سعيد ـ طيّب الله ثراه ـ بعد أن بنى دولة حديثة تزهو بها الأيام، جعلت السلطنة دولة محورية في السلام العالمي. عام كامل.. مرّ على العمانيين؛ حينها كانوا عيناً تدمع على رحيل من أعاد لهم مجدهم، وقلباً يخفق منتظراً مَن يخلف «أنقى الرجال وأوفاهم».

لم يكن السلطان قابوس في عمره مشغولاً بشيء غير عمان، يقود بعزم مسيرة ترنو نحو مستقبل ينفض عنها غبار الزمن، مستصحباً أمجاد السلف، ومستحضراً منجزاته العظيمة، مسيرة.. مؤمنة بأن الله مع مَن يحب الخير للبشرية، وينصر مَن يسل سيفه ضد الطغيان، لقد عاهد جلالته شعبه فأنجز ما وعد، فأصبح لا يُذكر اسم عمان إلا مقروناً بالسلام، وإن كانت الدول تعالج خلافاتها بالصراع؛ فإن عمان أصبحت قِبلة لرأب ما تصدّعه السياسة.

السلطان قابوس.. تمتع بخصال نفسية قامت عليها منظومته الأخلاقية، طبعت السياسةَ بفضائلها، ناقضةً سنن السياسة المعتادة، التي تفصّل الأخلاق وفق مقاسها؛ بمكيافلية مدمرة للدول ومذلة للشعوب، والتي شهدنا لها نماذج مؤلمة. وإن كان القادة تُدرَس نظرياتهم السياسية؛ فإننا مع حاكم يستلزم منا دراسة حياته كاملة؛ وفي مقدمتها خصاله النفسية.

الرحمة والحكمة.. من أبرز خصال السلطان قابوس، إلا أن الرحمة أظهر في تعامله مع الإنسان؛ وبالذات مع شعبه، بينما الحكمة أظهر في سياسة الدولة؛ لاسيما في العلاقات الخارجية، وقليل من يقتدر على الموازنة بين هاتين الخصلتين، بحيث لا تختل إدارة الدولة بغلبة إحداهما على الأخرى، ولقد وازن السلطان قابوس بينهما؛ فبنى من العماني إنساناً متصفاً بالعزيمة والهدوء، سمته التصالح مع النفس والتسامح مع الناس. وأقام أواصر التعاون مع الدول وفق المواثيق الدولية، لَمَسَ العماني ردود فعلها الحسنة في أي أرض يطأها، ويفخر بهذه السياسة أينما حل وارتحل.

الخصال النفسية للسلطان قابوس ـ رحمه الله ـ خلدته ليكون «روح عمان».. تسري في أبناء الوطن كله؛ أشرقت في النفوس، واستحكمت في العلاقات بين الناس، وتبلورت في منجزات النهضة.

«روح عمان».. تكثيف لمشاعر العمانيين، ولا زالت تتردد في نفسي عبارة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق ـ أعزّه الله ـ عندما سمعته ذات يوم يقول: (أجيال بأكملها تربّت على يديه وبمحبته). وهي عبارة أدرك اليوم عمقها، إذ اتخذت السلطنة «روح عمان» رمزاً لها، تستلهم منه كل جميل، وتبني على ما أسس من تمكين عظيم، لقد عرف جلالة السلطان هيثم ـ أيده الله ـ حقيقة «روح عمان»، وها هو يذكي نفوس العمانيين بذلك الروح الخالد.

إن السمو الأخلاقي لجلالة السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ لم يركن بالنفس للاستكانة، ولم يلقِ بها على قارعة الطريق، منتظرة ما تجود به الحياة من فتات الأمم وفوائض الدول، بل هو خُلُق عزيز، يخلق التغيير، ويطمح للريادة، ويصبو إلى التقدم، ويعمل لأجل التمكين الحضاري. وهذا ما شهدته السلطنة على طول تأريخ دولتها الحديثة، التي لم تجمد عند خطة حققت لها نجاحاً، ولم ترضخ لأزمة عصفت بها، بل من سمات هذه الدولة أنها تتجدد باستمرار، فهي بحق تمثّل الشعار الذي رفعته: «عمان.. نهضة متجددة».

التجديد.. ليس مواقف عابرة، ولا إلزامات لردود فعل قاهرة، ولا شعارات تداعب الأحلام، بل هو خصلة في النفس قبل أن يكون نهجاً للدولة، لا يجعلها تهدأ حتى تحقق مبتغاها، إنه قوة تفتت الصخر لينبت غرساً يؤتي أكله طيباً كل حين، إنه نفوس الكبار التي تتعب من مرادها الأجساد، لتصنع مجداً ينعم به الحاضر ويخلده التاريخ، يصدقه قول المتنبي:

كل يوم لك احتمال جديد ومسير للمجد فيه مقامُ وإذا كانت النفوس كِباراً تَعِبَت في مرادها الأجسامُ قبل عام.. وقلوبنا تودع جسد «روح عمان»؛ كانت معلّقة بآخر نياط قلبه، وهو يضع عمان أمانة بيد رجلها الوفي، الذي أعلنه سلطاناً بوصيته، فقد أصر رحمه الله أن يرسم الفرح في قلوب العمانيين حتى لحظة تودعيه، باختياره «السيد هيثم بن طارق» سلطان عمان القادم، فيتحول 11 يناير يوماً وطنياً يتجدد فيه الوفاء كل عام لعمان وقائدها المعظم ـ حفظه الله ـ، وكأني بالسلطان قابوس يسكب روحه الخالد في نفس هذا العظيم الآتي لعمان بكل سؤدد، ليؤثّل لها طوراً جديداً من المجد لا تنفصم عراه.

واليوم.. ها نحن نختم عامنا الأول من الفصل الثاني للنهضة المتجددة، عام كأنه جاء ليختبر صلابة عمان، ورسوخ دولة مؤسساتها، ومدى قدرة العمانيين على مواصلة الطريق. عام شهد العالم فيه أزمة مالية لم يشهدها منذ قرن، حيث هوى سعر البترول إلى ما دون الحضيض، فلأول مرة -في بعض حالاته- يباع بالسالب. عام اجتاح العالمَ فيه وباءُ كورونا (كوفيد19)، الذي أوقف ماكينة العالم الضخمة، فأصاب كل مفاصلها، وخنق شرايينها المتدفقة بالحركة بين البلدان؛ براً وجواً وبحراً، وحَجَرَ البشرية في بيوتها؛ فلم يكن لها من قدرة إلا أن تتسرب إليها الحياة عبر نوافذ العالم الافتراضي.

ما كان من عاهل البلاد المفدى حفظه الله لمواجهة ذلك إلا أن يتوشح الحكمة ويتسلح بالجد والعزيمة، ويأخذ زمام المبادرة في علاج الوضع انطلاقاً من «رؤية عمان..2040» التي اصطنعها على عينه، بعد أن مكّنه منها «روح عمان» رحمه الله، وكأنه كان ينظر إلى تحديات المستقبل، وإلى معالجتها بأنجع السُبُل، فإذا جلالة السلطان هيثم هو القلب الذي يضخ دماء الحياة في الأمة العمانية، وهو الربان الذي يقود سفينتها إلى بر الأمان مجتازاً أعاصير الأزمة العالمية، لقد استوى على تخت ملك عمان وهو يملك رؤية واضحة، بدأنا نرى ملامحها من خلال إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة.

سمة هذه الهيكلة.. التجديد، فالحياة إذا ركدت أسِنت، ولابد لها من حركة تغيير فاعلة، تؤتي على ما تصاب به الأنظمة الإدارية من ترهل، وتختصر البيروقراطية المملة، فلم يعد للزمن فسحة لترف المشي في طرقاتها المتعرجة، إن هذا التجديد ترجو السلطنة منه أن يضعها على سكة الانطلاق نحو المستقبل.

تجديد.. جاء بعد مراجعة اشتملت عليها «رؤية عمان..2040»، خرجت بضرورة إصلاح ما لحقه العطب بمرور الأيام عليه بثقلها، والعمل حثيثاً بما يكفل النجاح، ولذلك.. بدأنا نرى طليعة الإجراءات التي نرجو أن تؤهل النظام الإداري الجديد لأداء دوره برشاقة في العمل، وسلاسة في تقديم الخدمات، وتوفير من المصاريف، وتعظيم لميزانية المال العام، وهي إجراءات طالت العديد من المرافق، بما فيها دمج بعض المؤسسات، وخفض الإنفاق؛ مشتملاً العلاوات التي لم يعد من الضرورة بقاؤها، بما فيها علاوات الوظائف الكبيرة.

هذا التجديد والإصلاح.. لن يقف حتى يقمع الفساد ويسد ذرائعه، ويرسّخ العدالة في المجتمع، ويؤكد على حفظ استقراره، ويؤهل مستقبله نحو مزيد من الإنجازات، التي تجلب الاستثمار الحقيقي والآمن لعمان.

عام مضى.. والسلطنة لم تغب عن المشهد العالمي، يتغيّر المسؤول عن العلاقات الخارجية؛ دون التخلي عن المبدأ، فالأخلاق كامنة في صلب السياسة العمانية؛ تذكي فيها شعلة الأمل بغدٍ أفضل للعالم، يشرق بالسلام ويتآخى بالتسامح ويتعاون لتحقيق مصالح البشر، فقد واصلت السلطنة رعاية الملفات التي تحتاج إلى كلمة سواء بين الأطراف الدولية المتصارعة، فهي تؤمن بأن السلام أفضل سبيل لإدارة العلاقات بين الدول وأمتن لحمة بين الشعوب.

وها نحن العمانيين نقول لعاهل بلادنا المعظم دام مجده: سر يا مولانا في طريق التجديد والإصلاح، ووأد الفساد بقطع دابره، سر نحو يوم مشرق جديد للمجد العماني، والشعب معكم، والله يحفظكم.