أفكار وآراء

دور الشعوب في مكافحة الوباء .. الصين أنموذجا

09 يناير 2021
09 يناير 2021

د.عبد العاطي محمد -

أكدت الوقائع في مسيرة العالم للتخلص من وباء كورونا المستجد أن دور الشعوب لا يقل أهمية عن دور الحكومات إن لم يكن يفوقه، فالمواجهة سواء في مرحلة الإصابة أو في مرحلة التعافي مرتبطة بمدى وعي كل شعب بخطورة الوباء من حيث تأثيره القاتل على الحياة، وبالاستجابة الدقيقة لكل الإجراءات مهما كانت قسوتها، وبالثقة في سياسات الحكومات، وبتوافر روح الأمة التي تتمثل في التصميم على تجاوز المحنة والإصرار على النجاح في المعركة مع الوباء.

وبما أن هذا وذاك كان واضحًا وجليًا خلال عام الإصابة المنصرم (2020)، فإنه يظل قاعدة ضرورية للعمل في عام التعافي المرتبط بظهور اللقاحات المختلفة (2021).

الرئيس الصيني شي جين بينج وجه كلمة إلى شعبه للتهنئة بالعام الجديد، خصصها كلها لتوضيح الدور الذي قام به الشعب الصيني في معركة المواجهة الشرسة مع الوباء وللإشادة بهذا الدور ووصف ما جرى تارة بأنه كان ملحمة تاريخية وتارة أخرى بأنه كان بطوليا حقا.

وبرغم قوة وضخامة التحركات التي قامت بها الحكومة الصينية منذ الأيام القليلة الأولى لظهور الوباء للسيطرة عليه والحد من انتشاره، لم يهتم الرئيس الصيني باستعراض هذه التحركات بقدر ما اهتم بتعظيم الدور الذي قام به الشعب الصيني. وما ورد في كلمته الموجزة العميقة المعنى قد يكون من اختصاص الشعب الصيني ذاته كجانب من مسيرته الوطنية قديما وحديثا للوصول إلى التقدم، ولكن الكلمة تضمنت ما يقيد البشرية عموما في مثل المحن والظروف القاسية المرتبطة بانتشار وباء قاتل. وليس غريبًا أن يلتمس الآخرون الوسائل والحلول مما تجود به الحكمة الصينية على مدى الزمن.

نقول ذلك لأن الأزمة لا تزال حاضرة عند كل الشعوب بمن فيهم الشعب الصيني، كل بدرجات مختلفة وفقًا لما حققه من جهود ونجاحات نسبية، فالإصابات تتوالى منذ بدايات الشتاء والحديث يتكرر كل يوم عن تحور الفيروس وقوة سرعة انتشاره، في الوقت الذي بدأت فيه عملية البحث عن التعافي بعد النجاح في إنتاج عدد اللقاحات، ومن ثم فإن الحيطة والحذر لا يزالان قائمين، والخوف من عدم قدرة اللقاحات على تجاوز الكارثة في العام الجديد يجد تعبيره كل يوم على لسان المختصين، والمعنى أن أسلحة المواجهة ممتد العمل بها وفي القلب منها دور الشعوب.

وكان من اللافت في كلمة الرئيس الصيني أنه لم يسارع بإعلان الانتصار على الوباء في بلاده برغم وجود شواهد على أنها وضعت أقدامها على هذا الطريق، فقط قال: حققنا منجزات كبيرة في القضاء على تأثيرات الوباء، مشيرًا إلى أن بلاده استطاعت أن تحقق نموًا إيجابيًا بين اقتصاديات العالم الرئيسية وأنها تتوقع ارتفاع الناتج المحلي الصيني في عام الكورونا إلى مستوى المائة تريليون يوان (الدولار يتراوح بين 6 و7 يوان). ومن جهة أخرى لم يسع إلى تقديم مواعظ ودروس لا لشعبه ولا للعالم لأنه يعلم مدى تعقيد أزمة الوباء.

وبدلا من ذلك ركز على حقيقة أن الشعب الصيني كان هو البطل وسيظل كذلك مستقبلا، ورأى أنه كان من الواجب عليه حقًا أن يعطى لهذا الشعب حقه من التقدير والعرفان، هذا ليؤكد أنه مهما توصلت الحكومات إلى حلول ووسائل فإن هذا لن يكون كافيا في حد ذاته، بل لا بد من الأصل أن تتضح معالم الدور المنوط بالشعوب، فبها تكتمل دائرة النجاح.

بالحسابات المعتادة لم يكن متوقعًا أن تنهض الصين من الكبوة، فقد كانت ووهان التي تعد من أهم معاقلها الحضارية والاقتصادية هي موطن الوباء عند ظهوره أواخر 2019، وعليه كان من الطبيعي أن تكون البلاد أول أجزاء المعمورة وأكبرها في قائمة الإصابات، وتابع العالم عديد المشاهد المأساوية للوفيات الملقاة على قارعة الطرقات.

وعزز هذا الاعتقاد كون الصين بلد أشبه بالقارة الفسيحة من حيث المساحة الجغرافية وتمتلك من السكان رقمًا فلكيًا يصل إلى نحو مليار و400 ألف نسمة.

وعليه كانت أول الحسابات تقول إن الصين لن تتمكن من السيطرة على الوباء في وقت قصير وستشهد أرقاما ضخمة من حيث الإصابات أو الوفيات.

وكانت هذه الحسابات حقيقية ولكن في الأيام أو الأسابيع الأولى لظهور الوباء فقط، حيث سرعان ما تبدلت الأمور وإذا بالصين تنجح في السيطرة وفي وضع أقدامها على طريق التعافي بينما كان الآخرون غارقون في مستنقع الإصابات يسابقون الزمن بحثا عن طريق يمكنهم من السيطرة ومنع التفشي.

وما كاد شهر مارس 2020 ينقضي، أي بعد مرور نحو أربعة أشهر على ظهور الوباء، حتى تبدل المشهد حقًا وسط دهشة واستغراب العالم كله (أكدت منظمة الصحة العالمية آنذاك شفاء 70% من المصابين والبالغ عددهم أكثر من 80 ألف شخص)!. وقد تحقق هذا الإنجاز الملفت بفضل سلسلة من الإجراءات القاسية التي لم تجد لها مثيلا في بلاد وشعوب أخرى. فقد تم فرض حجر صحي صارم في منطقة ووهان المهمة والضخمة ذات منافذ الاتصال العديدة مع غيرها في الداخل ومع العالم الخارجي، وتم إغلاق المصانع والمحلات والشركات وأوقفت وسائل النقل العام، وتم منع التجمعات والفعاليات وأغلقت المدارس والجامعات، وتم تشييد مستشفيات ميدانية في بضعة أيام في ووهان لعلاج المصابين. وكلها إجراءات شديدة الصرامة ويكاد لا يستطيع شعب ما أن يتحملها بل ويستجيب لها، إلا شعب من نوعية الشعب الصيني! ومع ذلك ظلت تعد خارطة طريق لمن يريد من الشعوب الأخرى أن يحقق النتائج نفسها.

وفي ظل التحول من الإصابة إلى بدء التعافي، كان من المشروع التساؤل عن الأسرار الكامنة وراءه: هل هناك خصائص معينة ينفرد بها الشعب الصيني تمكنه من سرعة التغلب على المحن، أم أن هناك قواعد عامة تصلح لكل الناس ويصبح المحك هو تباين القدرات في تنفيذها؟. هذا ما يمكن العثور على إجابات له في كلمة الرئيس الصيني ولو بشكل غير مباشر، حيث وردت الإشارة إلى الأمرين: أي ما يتميز به الشعب الصيني، وما يصلح كقواعد عامة للجميع. بعض مما يخص الشخصية الصينية ويجعلها متفردة عن غيرها تعلق بما يزخر به تاريخها الحضاري من حكمة ومقولات مضيئة تلخص خبرة الحياة وتشكل أعمدة للتفكير العقلاني كأن يقول الرئيس الصيني مثلا إن البساطة تصنع العظمة والأبطال يأتون من الشعب، أو أن المصاعب تبرز البطولة والصقل يُجمّل اليشم، أو لا غربة لمن يمشي في الطريق الصحيح، أو أن يرجع الإنجاز إلى ما يطلق عليه روح الأمة المتمثلة في الكفاح بجلد في سبيل التقدم. وأما ما يتعلق بما هو عام يخص كل التجارب الإنسانية فقد أشار الرجل إلى ما أطلق عليه التصميم الجماعي القوي والإصرار والجلد، وكذلك الإرادة والعزيمة، والحب الإنساني الكبير: بوضع الشعب في أعلى مكان واعتبار الحياة أهم شيء، والعمل الشاق ومواصلة الكفاح.

وانطلاقًا من أن تجارب الأمم للتغلب على المحن والبحث الدائم عن التقدم في كافة المجالات قد أصبحت في زماننا المعاصر القائم على الانفتاح وليس العزلة مجالًا للاستفادة المشتركة كل حسب أولوياته الوطنية وإمكانياته المتاحة، فإنه من المنطقي بل ومن الطبيعي أن تحظى التجربة الصينية في التعامل مع الوباء باهتمام الجميع واستخلاص العبر والدروس.

ومما يعزز دعوة كهذه أنه في حالة إجراء المقارنة بين هذه التجربة وتجارب دول غربية كبرى، على رأسها الولايات المتحدة، في القضية نفسها، تبدو الأولى الأكفأ والأصح، بينما ظل كثير من تجارب الطرف الثاني يتخبط وينتقل من فشل إلى آخر!. لم يكن الوضع الاقتصادي ولا الإمكانيات العلمية ولا قوة الخدمات الصحية ولا اللوجستية هي العوامل الفارقة بين النجاح هنا والفشل هناك.

صحيح أن الصين توافرت لديها كل هذه العوامل، ولكن كثير من الدول الغربية الكبرى توافرت لها العوامل نفسها وربما بشكل أكبر.

ومن جهة أخرى ليس من المقبول اتهام شعوب الدول الغربية بعدم الوعي، فهذا ما لا يمكن تصوره عقلا بحكم تقدمها الحضاري الموغل في القدم، ولكن الفارق يكمن في أمرين كان لهما دور الحسم في الاختيار بين طريق السلامة وطريق الندامة!. أولهما يتعلق بالنخبة الحاكمة وسلطة اتخاذ القرار حيث لا بد أن يصدر القرار الصحيح في الوقت الصحيح، وأن يجري تفعيله بحزم وأن تتم متابعته بجلد دون أي تهاون ولو في أصغر الأمور.

وثانيهما أن تتحقق ثقة الشعب في حكومته لا أن تبدو مهتزة أو مفقودة أو موضع جدل، ففي حالات المحن والكوارث الكبرى لا مجال للجدل والخلاف في وجهات النظر وإنما التوحد في القول والفعل حول أسلوب المواجهة القائم على العلم والكفاءة.

الصين نجحت في تحصين موقفها ورؤيتها وطريقة عملها بالأمرين معًا أي سلامة القرار وثقة الشعب في حكومته، بينما تابعنا مشهدًا مضطربًا للغاية في عديد عواصم الغرب عند مواجهتها للجائحة لا لشيء سوى لأن النخبة ومتخذي القرار اختلفوا وفي بعض الأوقات تعاركوا!، كما كانت الثقة مفقودة بين الشعوب وحكوماتها فيما يتعلق بأسلوب وخطة المواجهة، حتى علماؤها اختلفوا فيما بينهم!.

الحكماء في منطقتنا العربية هم من استوعبوا سريعًا التصرف الصيني في مواجهة الوباء واهتموا بأن يكون بمثابة خارطة طريق، ونجحوا في وضع أقدامهم على طريق التعافي مستندين في ذلك إلى تعاون الشعوب واصطفافها مع صانع ومتخذ القرار.