أفكار وآراء

2020 عام الأحزان

30 ديسمبر 2020
30 ديسمبر 2020

محمد جميل أحمد -

في هذا اليوم الأخير من العام 2020، نودع عاماً ثقيلاً مرت فيه الأحزان وخيم فيه شبح الموت على رأس البشرية كشبح جماعي لأول مرة في العصور الحديثة، بعد أن ودع العالم مع القرون الوسطى تلك التهديدات التي كانت تهدده بها الأمراض.

وباء كورونا، الذي لا يزال يهدد الناس في كافة أنحاء العالم، بالرغم من توصل العالم إلى أكثر من لقاح لهذا المرض، يبدو أنه سيكون أيضاً مهدداً حتى الآن، على الأقل، دون تواصل العالم في مجراه الطبيعي.

كانت الأحزان ثقيلة على البشر، فليس أشد حزناً من فقد الأحبة بتلك الطريقة الجماعية التي حصد فيها هذا الوباء أرواحاً ضعيفةً لكبار السن وذوي الأمراض المزمنة، إلى جانب الطريقة التي فضح بها هذا المرض كثيراً من حكومات العالم الأول حين بدت مواجهته، في رهان تلك الحكومات، تعبيراً حاداً للصراع بين أن تكون الاستجابة لتحدياته استجابةً أخلاقيةً فورية، وبين أن يكون التلكؤ في الاستجابة ضغطاً خفياً تحت الوطأة المادية الثقيلة للشركات العابرة للقارات وتعللاً بضرورات الحريات الديمقراطية المقنَّعة!

هكذا بدا هذا المرض فضاحاً عبر ذلك السباق الذي راهن عليه حيال اختبار أخلاقيات الرأسمالية المادية، بتضييق هامش الوقت الذي جعل حكومات العالم الأول؛ بين مطرقة الاستجابة للأخلاقيات الإنسانية والضرورية، وسندان الخضوع للشركات الكبرى التي تتخفى وراء الحريات الديمقراطية في تقييد خيارات الناس!

وبعيداً عن نظرية المؤامرة، فإن مرض كوفيد 19 والطفرات المستجدة منه، التي طرأت في الأسابيع الأخيرة، يعتبر حالة اختبار عميقة للضمير البشري، تعيد للذاكرة الإنسانية بديهيات غابت في غمرة الوطأة المادية للحداثة والعولمة.

سيظل العام 2020 عاماً عصياً عن النسيان في الذاكرة البشرية لعقود ربما، ليس فقط بما تسبب فيه من حزن، ومن خطف المرض فيه لأرواح عزيزة، بل كذلك لقدرته العجيبة، عبر هذا المرض، على تذكير البشر بحقيقة النقص البشري والضعف البشري والعجز البشري، كذلك.

ففيما كانت أطوار العولمة تقطع أشواطاً في فتح معابر التواصل البشري من خلال أدوات صراع رأسمالي متوحش، فجأةً، جاء هذا المرض ليذكر العالم بأن الإنسان محدود القدرات، وأن القدرة على فعل عاديات الحياة وبديهياتها قد لا تكون بتلك السهولة التي طالما اعتقد الناس أنها كذلك!

فلا المجال العام أصبح ملكاً عاماً للتحرك فيه بإرادة البشر، ولا التواصل الإنساني في أدنى صوره، أمكن أن يكون كذلك، فضلاً عن الأثر الخطير لتعطيل هاتين المصلحتين البديهيتين على ما حققته العولمة ووسائل الإنتاج الحديثة من فائض القيمة العظيم لسوق العمل!

وبكل تأكيد، بعد أن توصل العالم إلى لقاح أو أكثر من لقاح للمرض، لن تمر هذه التجربة في ذاكرة البشر ووعيهم بمطلق الحياة على نحو عادي، بل ستؤدي بالضرورة إلى إعادة النظر في اعتبارات كثيرةٍ في اجتماعهم البشري وملاحظة الفجوات الخطيرة التي نبههم إليها هذا المرض فيما يواجهون كابوسه بهلع!

لن يكون العالم بعد العام 2020 كما كان قبله بكل تأكيد. وستكون هناك أسئلة كثيرة في الفلسفة والاجتماع البشريين تحتاج إلى إجابات مختلفة، كما أن خط سير العولمة بالطريقة التي كانت تبشر بها سرديات ما بعد العولمة، ستعيد أسئلة كثيرةً وإعادة تفسير لمفاهيم كثيرة ظن البعض أنها أصبحت من الماضي، وجاء هذا المرض ليذكر العالم بإعادة التفكير فيها.

وفيما يحاول العالم أن يلتقط أنفاسه خروجاً من معركة قاسيةٍ مع هذا المرض ستظل الأرواح العزيزة التي فقدناها في هذا العام لأحبائنا شبحاً يذكرنا بوطأة الحزن الذي حصده العام 2020 في قلوب البشر في كافة أنحاء العالم.

سيمر الحزن وتبقى الذكريات، ويمر الموت وتبقى الحياة، فيما نحن نستقبل عاماً جديداً سائلين الله أن يكون عاماً مليئاً بالتفاؤل والأمل والعودة التدريجية للحياة إلى المجال العام الذي بدا عسيراً على الجميع.

لن يفقد الإنسان الأمل طالما ظل قادراً على العيش، فإرادة الحياة أقوى من إرادة الموت، ولا تزال البشرية تتطلع إلى الأفضل بعد أن اهتزت ثقتها المطلقة بالعلم في التجربة المريرة والمفاجئة لهذا المرض.

سيعود العالم إلى ما كان عليه، لكن فيما يعود العالم إلى سيرته الأولى، سيعرف الناس لأول مرة، ربما، أن مفاجآت الحياة لن تنتهي مهما بدت خلاف ذلك!