أفكار وآراء

الربح والخسارة .. ميزان التفاضل في القيم الإنسانية

20 ديسمبر 2020
20 ديسمبر 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

الربح والخسارة، مفهوم كوني، يذهب إلى إيجاد انحرافات كثيرة وعميقة على وقع الحياة اليومية، حيث تعاملات الناس فيما بينهم، وأشدها أثرا عندما تربك هذه الانحرافات منظومات القيم الأخلاقية، حيث تؤصل مناخات (الفقر، والاسترقاق، والاستعباد) وتوسم الضمير الإنساني في خاصرته، فيغدو مشوها، وتقوّض الأمن والاستقرار المجتمعي، وتعبث بالتشريعات والقوانين فتجيرها لحسابات الأشخاص الخاصة، ولقد استحدثه البشر لتسيير جزء مهم من حياتهم اليومية، وبنوا عليه تفاضلاتهم على أشياء كثيرة في حياتهم، وليس فقط على سلعة خاضعة للتنقل من طرف إلى طرف آخر، وأن لهذه السلعة أو تلك ثمنا معينا فقط، والذي ضاعف من أهمية الربح، أو الخسارة

، ليست حالة السوق فقط التي تعيش على مستويات العرض والطلب، وإنما على انتزاع الإنسان نفسه من محيطه العام، والذهاب أكثر إلى محيطه الخاص، حيث تبدأ النفس لعبتها الماكرة، في البحث عن المزيد من الربح، ولو على حساب خسارة المجتمع ككل.

وعلى الرغم من أن الربح والخسارة -كممارسة- تذهب أكثر إلى العمليات التجارية البحتة، كما هو الفهم العام، إلا أن هذا المفهوم يخضع كثيرا، ويوظف، في ممارسات أخرى غير ذات الطابع التجاري البحت، فتقاس عليها معظم المعاملات القائمة بين البشر، وهنا الخطورة أكثر، حيث ينزع الإنسان نفسه من واقعه الإنساني المطلق، في كثير من الأحيان، ويسقط نفسه في بئر المصالح الخاصة القائمة على الربح والخسارة، وهنا تتحول جل المعاملات القائمة بين الناس من حالتها الإنسانية النظيفة، إلى حالتها الملونة، والتي يكثر فيها الظلم، والخيانة والسرقة، والتلاعب بالمشاعر، والتحايل على القوانين والأنظمة، وقد يتعمق السلوك إلى القتل والاغتيالات، وهتك الأغراض، وارتكاب الموبقات.

ولذلك ينظر إلى أي مجتمع يشكل فيه الربح والخسارة مجمل بنيته الاجتماعية (المجتمع المادي الصرف) على أنه مجتمع معرض لواقع هش في جانب الأمن والاستقرار، ليس فقط في جانبه الأمني البحت، ولكن أيضا في أمنه الاجتماعي المهم جدا، ومتى أصاب هذا الجانب شيئا من هذا الخلل، فإن ذلك سيكون، بلا جدال، على حساب برامج التنمية، وعلى حساب تقويض أي منجز إنساني من شأنه أن يعلي سقف الطموحات عند أبنائه، حيث تظل الثيمة الغالبة لدى أبناء المجتمع هي الربح، والربح فقط، وهذا مما يستدعي الأعين المتلصصة عليه أن تزحف نحوه وتزيد من معاناته، حيث تتهلهل اللحمة الاجتماعية فيه إلى حد كبير، ولذلك تسعى الأنظمة السياسية الحديثة، والتي ترى في الشعب، قوتها وسندها، حيث تستمد هيبتها من خلاله، إلى تحصين أبناء المجتمع بالكثير من القيم الإنسانية، التي من شأنها أن توازن بين متطلبات السوق، ومتطلبات المجتمع، بحيث لا يطغى جانب على آخر، فالسوق ضروري لبقاء الاستدامة المادية للطرفين، وتعزيز المكانة الاقتصادية، في الوقت نفسه تبقى هيبة المجتمع وقوته في تآزره وتعاونه، وتكافله وتكامل جهود أفراده.

ومما يستغرب له أكثر أن هناك شعوبا في هذا العالم لا تزال تعيش مفاهيم القرون الأولى للوعي الإنساني، حيث الاسترقاق، والاستعباد، والعنصرية بأنواعها وأشكالها، وذلك لسبب بسيط، وهو أنها لم تستطع أن تتحرر من عقدها النفسية القائمة على مفهوم الربح والخسارة، حيث تسعى الأنظمة السياسية فيها إلى عدم إعطاء أبناء هذه الشعوب شيئا من نَفَس الحرية، وشيئا من الأمن الذاتي، وشيئا من الاستقرار النفسي، حيث يربط هؤلاء البشر بمصير الرابح دائما، وبالتالي فكلهم مجندون لتضخيم هذا الربح، وفي المقابل تكريس هذا الاستعباد، جيل بعد جيل، وتأتي الأنظمة الاستعمارية الدولية من خارج الحدود، لتضييق الخناق عليهم، وتجفيف منابع أي محاولة للخروج من مآزق العبودية المتجذرة لهذه الشعوب، وذلك من خلال ما تفرضه من واقع جديد يعلي من سهم بقائها واستمرارها، دون أدنى رحمة لجموع هؤلاء البشر الذين يقتاتون على الفتات الذي تتيحه لهم أنظمتهم السياسية المتأمرة مع الأنظمة الاستعمارية.

يقول يوفال نوح هراري في كتابه، العاقل -تاريخ مختصر للنوع البشري- (مترجم): «حين يصبح النمو المصلحة الأعلى غير المقيدة بأي اعتبارات أخلاقية أخرى، فقد يؤدي ذلك بسهولة إلى كارثة. قتلت بعض الأديان، مثل المسيحية والنازية الملايين بسبب الكراهية، وقتلت الرأسمالية الملايين بسبب اللا مبالاة الباردة المقترنة بالجشع».

ويضيف: «لم تنبع تجارة الرقيق الأطلسية من الكراهية والعنصرية اتجاه الأفارقة، نادرا ما فكر الأفراد الذين اشتروا الأسهم، والسماسرة الذين باعوها لهم، ومديرو شركات تجارة العبيد، بالأفارقة، ولم يفكر بهم أصحاب مزارع السكر كذلك، عاش كثير من المالكين بعيدا عن مزارعهم، والمعلومات الوحيدة التي طلبوها كانت دفاتر الحسابات الدقيقة للأرباح والخسائر» -انتهى النص- ويمكن قياس هذه المسألة على توجهات الدول الاستعمارية منذ القرون الأولى في التفكير نحو استكشاف القارات والوقوف على الأمم والأقوام التي تبعد آلاف الكيلومترات عن الدول المستكشفة، حيث تحول الاستكشاف إلى الاستعمار والتربح، ودفعت الدول التي تم اكتشافها الثمن باهظا، فقط لأن حظها العاثر ساقها في طريق هؤلاء المستكشفين، وكان الهدف غير المعلن من هذه الاستكشافات هو البحث عن مصادر دخل كبيرة لتعزيز البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الدول التي جاء منها المستكشفون وليس في الدول التي تم استكشافها، وقد تحقق لهم ما أرادوا، فكل البلدان التي جاء منها المستكشفون هي اليوم من الدول الغنية، والمتطورة -ماديا ومعرفيا- بفضل الكنوز والعوائد المادية التي جلبها هؤلاء المستكشفون لبلدانهم، بينما واقع جغرافيتها البكر لم يكن ليساعد لأن تكون اليوم في قمة تطورها وتقدمها، وفي المقابل، ظلت الدول المستكشفة تعاني من الجهل، والتأخر، والظلم، والاستبداد، وذلك ما خلفه المستكشفون «المستعمرون».

تأتي التشريعات والقوانين كأهم منتج تنموي من شأنه أن يعزز القيم الإنسانية والمادية على حد سواء في شأن إيجاد توازن غير مخل ما بين الربح والخسارة (الغنى والفقر) وهذا المنتج التنموي تفرضه السلطة التشريعية في أي بلد كان، ولذلك تمثل السلطة التشريعية، ضمن السلطات الثلاث، في أي دولة أهمية قصوى في إيجاد هذا التوازن المهم في حياة الأفراد، وفي تعاملاتهم، وتفاعلاتهم، وفي علاقتهم بالنظام السياسي على حد سواء، وليس هناك من جهة لها القدرة الأكبر على إيجاد هذا التوازن من السلطة التشريعية، وهي كما يعرفها الجميع «السلطة المستمدة قوتها من الشعب» وبالتالي فهي تعمل على جمع مصلحتي العباد والبلاد بما تنتجه من نظم تشريعية تراعي مصالح الطرفين دون إخلال بما تعهدت به أمام الناخب، ولذلك ينظر إلى هذه السلطة بعين الرضا في كثير من اشتغالاتها التشريعية، حيث لا سلطة على القانون، إلا لواضعه، وفق مبررات يقتنع بها صاحب القرار الأعلى في النظام السياسي، وهذه السلطة هي المسنود إليها تجفيف منابع الربح والخسارة في مختلف انحرافاتها غير السوية.

ينظر الناس بعضهم إلى البعض من خلال (ميزان التفاضل) وهو ما تسفر عنه نتائج الربح أو الخسارة على الواقع، وقياسه الغنى والفقر، ولكل صنف من هذين الصنفين حساباته الخاصة في هذا الميزان، حيث يتعاطى الناس بعضهم مصالح بعض وفق هذا التصنيف، بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى، الثقافية، على سبيل المثال، ولذلك تواجه القيم الاجتماعية على وجه الخصوص، جملة من المشاكل والتعقيدات، بسبب الفقر والغنى، الناتجان عن الربح والخسارة، حيث يتسع الفهم أكثر، ويأتي في مقدمة هذه التعقيدات -على سبيل المثال- حالات النسب، فمقياس الغنى والفقر يؤثر تأثيرا مباشرا عند الكثيرين من أبناء المجتمع، ولا تقف المسألة عند رفض المتقدم للزواج على أنه فقير فقط، بل ترغم المرأة المقبلة على الزواج من الزواج من أحد أفراد العائلة خوفا من تشتت ثروة العائلة في يد الغرباء عنها، ويحدث العكس أيضا، وفي كلا الأمرين يقف الشاب، أو الشابة عند هذا المربع، ولا يستطيعان الانتقال إلى المربع التالي، إطلاقا، في حالة، أقل من أن توصف، أنها تعطيل لكل القناعات، والمكتسبات الثقافية الداعمة: من دين، واستقلال مادي، وقناعات واعية مكتسبة.