أفكار وآراء

هل يقترب العام من صدام الثقافات؟

16 ديسمبر 2020
16 ديسمبر 2020

عبد الله العليان -

هذه فكرة أو نظرية سياسية قديمة وضعها الغرب فيما بعد الحرب الكونية الثانية، وبروز الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى في الانتصار على النازية وتحطيم قوتها، فمنذ 1949م ظهرت ما يسمى بنظرية الحرب الوقائية أو الحرب المانعة أو حرب الإحباط عند البعض، حيث ساد في تلك الفترة ـ بحسب قول د. إسماعيل مقلد ـ الاعتقاد في «دوائر الخبراء العسكريين والسياسيين المسؤولين عن التخطيط لمثل هذه الاستراتيجية، بأن الاتحاد السوفيتي كان في طريقه إلى امتلاك قوة نووية، وحينئذ كان من المتعيّن على الغرب أن يواجه خطرين في آن واحد: خطر الهجوم السياسي الشيوعي على مناطق نفوذه ومراكز قوته، وخطر الهجوم النووي الذي كان من المحتمل أن يبادئ به السوفيت خلال فترة التصلب الستاليني وسيطرة مفهوم حتمية الحرب بين العسكريين.

قبل عدة سنوات مضت توقع العديد من الباحثين العالميين أن عصرنا الراهن، هو عصر الاندماج العالمي بين الشعوب، وأن عصر العلم والتقدم سيقترب من بعضها البعض كنتيجة لتقدم العلم والتكنولوجيا، وهذا يعني أن العالم سيصبح حضارة عالمية واحدة، لكن هذه المقولات والتنبؤات تراجعت عما هو متوقع من هؤلاء الباحثين، حيث اشتدت الخلافات بين الدول المحورية في العالم في مسائل عديدة، وكلما توقع المحللون تقدم الاقتراب البشري من بعضه البعض، برزت مشكلات وتوترات أخرى غير متوقعة، بل وحصلت صراعات وحروب ومشكلات تبرز بين الحين والحين، في ظل غياب العدل وإعطاء الحقوق لأصحابها، بل إن الظلم والقهر والاستبداد والمقاييس المختلفة، واتخاذ وسيلة لفرض الأمر الواقع على الدول الصغيرة أو التي تريد استقلالا في رؤيتها السياسية، أو حقوقها في الاختيار الذاتية، وبدلا من ذلك ازدياد فرض الرأي وليس تعدده بحيث أصبحت القوة هي الطاردة لكل ما من شأنه إقامة العدل الذي هو الضامن لهدف التقارب البشري في حضارة عالمية جديدة، تقبل بالتنوع في إطاره، وضمن رؤية إيجابية من الجميع.

لكن هذا الحلم الذي يفترض أن يتم، أصبح طوبي حالمة ليس له واقع قيمة واقعية تذكر، أو كما يسمى باللغة اللاتينية «يوتوبيا « ـ المدينة الفاضلة ـ، وازداد الابتعاد والخلاف والصراع، الذي أخذ منحىً أكثر حدة، كان العالم بعد هجمات نيويورك وواشنطن عام 2001، أن سعت بعض النخب إلى تحقيق الحراك السياسي والفكري، لإقامة حوار للحضارات والثقافات بين الدول، بين الشرق والغرب، أو بين الشمال والجنوب، لكن كل هذا الحراك باء بالبشر، وقد أشرت في كتابي (حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين)، إلى أهمية الحوار وضروراته للتقارب السياسي والفكري، وأن البشرية لا بد لها من الاعتراف بالاختلاف الطبيعي، وهذا الاختلاف مسألة خُلقية إلهية أن تختلف الأمم فيما بينها في الحياة وقيمها وعاداتها التي ترسخت مع الزمن، لكن المنطقي والإيجابي أنه لا بد لها من التحاور والقبول بتعدد الثقافات والتمايز الديني والثقافي، وهذا التعدد في داخل المجموعة البشرية ثراء كبير للأمة الواحدة وليس العكس، ومما قلت في مقدمة هذا الكتاب: «إن الحضارات تقابلت وتعايشت وتصارعت لكنها ظلت أقرب للتعايش والتسامح وبقي الصراع والتنافس محدوداً بظروف معينة، فالأهم هو الاستعداد للتعايش والندية في التعامل، ومن هنا وجب على الإنسانية أن تفهم بشكل أفضل لغة الحوار مع الأمم الأخرى، ولذلك نعتقد أن قضية الحوار أصبحت من القضايا والموضوعات المهمة لكل المشكلات العالقة أو الخافتة في عصرنا الراهن، سواءً على المستوى الداخلي في المجتمع الواحد، أو على المستوى الخارجي مع الحضارات والثقافات الأخرى. فالحوار يظل مطلبا لا غنى عنه للإنسانية جمعاء، إذا ما أرادت أن تعيش بمنأى عن الخلافات والتوجسات والصراعات، كما أن الحوار هو المنهج الصحيح للتفاهم والتعايش والتواصل بين الأمم والشعوب».

لكن قضية الحوار كحاجة بشرية، تراجعت عن بلوغ أهدافها للأسف، وتقدمت النوازع البشرية في تغليب النرجسية واتخاذ القوة لتكون الوسيلة للفرض والقهر وحل الاختلافات من خلالها، مما عزز الرجوع إلى الإثنيات والثقافة الأحادية الضيقة، وانتشر التطرف والغلو، ثم العنف، والأسباب غياب المعايير العادلة التي تسهم في التقارب والتفاهم، وليس التباعد والتنازع بين الشعوب، وبدأت التنوعات القومية والعرقية تنتشر في الكثير من دول العالم، ولا تنتظر بعضها إلا شرارة صغيرة لتندلع، وهذا نتيجة من نتائج غياب الإنصاف والحكمة وتغليب الواقعية على التعالي والعنجهية في السياسات والممارسات، وهذه الأنانية عند بعض الدول ومن مفكريهم، أن واقع قبول الاختلاف بين الثقافات والحضارات والتسليم به، وليس في حسابات هؤلاء.. ونستذكر ما قاله فرانسيس فوكوياما، في أطروحته (نهاية التاريخ وخاتمة البشر)، إن الفلسفة الغربية هي الفلسفة القابلة للتعميم، لكل البشرية، فسقوط النظم الاشتراكية في شرق أوروبا، تعني أن الرأسمالية والفكر الغربي الرأسمالي، هو الذي سيسود العالم، وهذا يعني نفي وطرد الثقافات الأخرى أو إقصاؤها، وهذه الرؤية لا منطقاً ولا عقلا ستختفي من الكرة الأرضية، وهذا ما أصبح واقعاً وقوياً عند أغلب الشعوب، الضعيفة منها أو القادرة على التحدي والاختراق، وهذا جزء من ثقافات شعوب لقرون مضت، وقد اعترف فوكوياما، بأخطائه في هذه النظرية في محاضرات وبعض المقابلات الصحفية، وهذا بلا شك انتشاء وغرور بانتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفيتي ، لكنها الواقع يقول غير ذلك، فقد أصبحت روسيا الاتحادية التي حلت بعد تفكك الاتحاد السابق، قوة كبيرة، لا تقل عن الدول الأوروبية الأخرى، من حيث القوة العسكرية والصناعية، وغيرها من القدرات الأخرى ، التي توازي بعض دول غرب أوروبا.

كما جاءت بعد ذلك دعوات صامويل هنتجتون في كتابه (صراع الحضارات)، ويسميه البعض من الباحثين بـ» صناعة الكراهية» وهذا مصطلح مناسب لمقولة صدام أو صراع الحضارات، وهذا الذي طرحه عن صدام الحضارات، هو أحد الأكاديميين المرتبطين بالمؤسسة الرسمية الأمريكية، أو تقديم الأفكار والتحليلات لصناع القرار، وهو أيضا يناقض ما قاله فوكومايا، من النظام الرأسمالي الديمقراطي هو «نهاية التاريخ» لكل البشر، ولا تنتظر الثقافات البشرية شيئاً جديداً بغير ذلك، سوى النظرية الليبرالية، وهذا يدل أن صناع القرار في بعض دوائر الغرب، لا تريد أن يستكين الغرب وينام قرير العين عن لعبة الصراع والقتال بعد انتهاء الحرب الباردة وغياب المعسكر الاشتراكي ـ كما أشرنا آنفاً ـ، بل عليه أن يبحث عن عدو مفترض، ليكون شماعة لترك الآلة العسكرية، وإبقاء الصراع قائما، ونبقى نحن القوة المهيمنة في الساحة الدولة، دون أن يكون العدو المفترض قادراً على الصمود أو الموازاة في القدرة على المواجهة، فتم اختيار الإسلام العدو الأخضر، بعد العدو الأحمر الذي يجب التصدي له ومقاومته.

وهذه فكرة أو نظرية سياسية قديمة وضعها الغرب فيما بعد الحرب الكونية الثانية، وبروز الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى في الانتصار على النازية وتحطيم قوتها، فمنذ 1949م ظهرت ما يسمى بنظرية الحرب الوقائية أو الحرب المانعة أو حرب الإحباط عند البعض، حيث ساد في تلك الفترة ـ بحسب قول د. إسماعيل مقلد ـ الاعتقاد في «دوائر الخبراء العسكريين والسياسيين المسؤولين عن التخطيط لمثل هذه الاستراتيجية، بأن الاتحاد السوفيتي كان في طريقه إلى امتلاك قوة نووية، وحينئذ كان من المتعيّن على الغرب أن يواجه خطرين في آن واحد: خطر الهجوم السياسي الشيوعي على مناطق نفوذه ومراكز قوته، وخطر الهجوم النووي الذي كان من المحتمل أن يبادئ به السوفيت خلال فترة التصلب الستاليني وسيطرة مفهوم حتمية الحرب بين العسكريين. ومن هنا تبلور مفهوم الحرب الوقائية على أنه كان يعني السعي نحو تدمير قوة الخصم والإجهاز عليها قبل أن تنمو في كامل أبعادها».

ولا شك أن دعوة الصراع والنزال بين الحضارات والثقافات، دعوات خطيرة وهادفة لاستدامة التوترات والصراعات من الشعوب، بدلا من التفاهم والحوار بين الثقافات الإنسانية، وقد ناقشت في كتابي (الإسلام والغرب.. ما بعد الحادي عشر من سبتمبر2001)، بعض هذه الأفكار التي طرحها هنتجتون في أطروحته وقلت إن: «الحضارات تقابلت وتعايشت وتصارعت لكنها ظلت أقرب للتعايش والتسامح، وبقي الصراع والتنافس محدوداً بظروف معينة، فالأهم هو الاستعداد للتعايش والندية في التعامل، ويجب على الإنسانية أن تفهم بشكل أفضل لغة الحوار مع الأمم الأخرى، ولهذا نحتاج إلى سياسة ثقافية تقوم على فهم طبائع الشعوب بحيث نصبح قادرين على التعامل مع خصائصها المتميزة في التفكير، بدلا من الحديث عن خطوط التماس بين الحضارات والحق أن لا الإسلام ولا المسيحية في تاريخها الطويل يأخذان الصدام أيديولوجية.. مضادة للآخر إنما الذي أجج الصدام هي عوامل أخرى يجب أن توضح في إطارها التاريخي، أما إن تحققت النزاهة والموضوعية في قضايا الاختلاف وفي إطار التعدد الثقافي والتمايز الحضاري والنظرة العادلة التي تعطي كل ذي حق حقه فإن هذا الحوار سيعزز مستقبل الإنسانية بالوئام والتعايش بدلا من التنافس والصدام وتكريس الكراهية».