أفكار وآراء

ليبيا ... رافعة الحل تنتظر إدارة بايدن وأشياء أخرى !!

14 ديسمبر 2020
14 ديسمبر 2020

د. عبد الحميد الموافي -

ليس من المبالغة في شيء القول بأن التطورات التي شهدتها الساحة الليبية على مدى الأشهر الأخيرة أثارت قدرا غير قليل من التفاؤل حول إمكانية التوصل إلى حل سياسي يحقق أكبر قدر ممكن من التوافق بين الأطراف الليبية في المقام الأول، ويكون قادرا في الوقت ذاته على الحفاظ على وحدة الدولة والأرض والشعب الليبي، والحد قدر الإمكان على الأقل من التدخلات الخارجية في شؤون الشعب الليبي الشقيق، وبما يصون سيادته وقدرته على العمل لتحقيق مصالحه الوطنية، وبناء حاضره ومستقبله وفق خيارات أبنائه وقواه الوطنية.

وبالرغم من أن عمليات التدخل الدولية والإقليمية، والتي قادها حلف الأطلنطي بغطاء عربي في عام 2011 لإسقاط العقيد معمر القذافي الذي حكم ليبيا منذ عام 1969، قد تركت الدولة والمجتمع الليبي ساحة مفتوحة للصراع الداخلي والتنافس الإقليمي والدولي أيضا، وعلى نحو كرر، إلى حد كبير، ما تعرض له العراق الشقيق بعد الغزو الأمريكي له عام 2003، بما في ذلك انتشار الميليشيات المسلحة الإسلامية والمناطقية وإضعاف الدولة المركزية التي تلاشت في ليبيا في الواقع لأسباب كثيرة، فإن فشل ووقف محاولة اللواء خليفة حفتر السيطرة على العاصمة الليبية طرابلس بالقوة المسلحة، واضطراره إلى الانسحاب من محيط طرابلس والعودة إلى الشرق الليبي في منتصف هذا العام، وسقوط قاعدة « الوطية » العسكرية في يد حكومة الوفاق بعد مساعدات تركية قوية ومستمرة، ثم توقف العمليات العسكرية بين قوات حفتر وقوات حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دوليا في 22 أغسطس الماضي، والتوقيع على اتفاق لوقف شامل لإطلاق النار بين الجانبين في 23 أكتوبر الماضي وتحديد خط سرت الجفرة كخط فاصل بين الجانبين، واعتباره « كخط أحمر من جانب مصر » لن تقف مكتوفة الأيدي، إذا تم تجاوزه من جانب قوات حكومة الوفاق الليبية، قد أنشأ في الواقع نوعا من التوازن العسكري على الأرض بين قوات الشرق الليبي بقيادة حفتر وقوات الغرب الليبي بقيادة حكومة السراج، ومن وراء كل منهما أطراف إقليمية ودولية معروفة تقدم الدعم والمساندة العسكرية واللوجستية والسياسية لهذا الطرف أو ذاك، سواء لاعتبارات المصالح والأطماع في موارد الدولة الليبية اليوم وغدا ، والانتفاع بالموقع الاستراتيجي الليبي الحيوي في بطن أوروبا على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، أو لحماية الأمن القومي الذي يتأثر إلى حد كبير بتدهور الأمن على الساحة الليبية التي تحولت إلى مصدر لتصدير الإرهابيين والأسلحة إلى دول الجوار الليبية التي دفعت ولا تزال تدفع ثمنا لما تعرضت وتتعرض له ليبيا الشقيقة على مدى السنوات العشر الماضية. وبدون الحاجة إلى الدخول في تفاصيل محلية وإقليمية ودولية، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى ملامح الوضع الراهن وما يمكن أن يؤول إليه في الفترة القادمة، وذلك في عدد من النقاط، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: إنه بالنسبة للمشكلات المعقدة وذات التقاطعات المتعددة، إقليميا ودوليا، مثل المشكلة الليبية، فإنه من المعروف أن الاتحاد الأوروبي، وإن كان يضم 27 دولة بعد خروج بريطانيا منه - إلا أن الثقل السياسي لهذه الدول، وبعضها دول كبيرة، يظل تأثيرا متواضعا إلى حد كبير، خاصة فيما يتصل بدفع المشكلة على طريق الحل الفعلي. نعم الاتحاد الأوروبي يشكل صوتا سياسيا، وإمكانية مادية كبيرة للمساعدات للدول والأطراف الأخرى، ولكنه يظل قزما سياسيا، ويظل في حاجة حقيقية لوقوف الولايات المتحدة معه، لكي يمكنه السير قدما لحل أي من تلك النوعية من المشكلات، ولا زلنا نتذكر مشكلة تفكك يوغوسلافيا وحرب كوسوفو في أوائل تسعينيات القرن الماضي، والتي لم تسر على طريق الحل إلا بعد التدخل الأمريكي. وفي ليبيا فإن المشكلة الأولى في الواقع هي أن واشنطن حدت من اهتمامها بليبيا بشكل كبير، بعد إسقاط القذافي، وخاصة كرد فعل لاغتيال السفير الأمريكي في طرابلس في 11 سبتمبر عام 2012، ومن ثم تحولت الساحة الليبية إلى ساحة لتجميع وتفريخ كثير من الجماعات والتنظيمات الإرهابية والمناطقية التي فضلت الاعتماد على ميليشياتها الخاصة لحماية نفسها والحفاظ على مصالحها، وبالرغم من محاولة اللواء خليفة حفتر إعادة تجميع الجيش الليبي مرة أخرى وجعل ذلك ركيزة لاستعادة وحدة ليبيا، ألا أن الأمر بعد عشر سنوات تقريبا على سقوط القذافي ليس سهلا. وليس أدل على ذلك من أن الاتحاد الأوروبي الذي سعى إلى القيام بدور من أجل الحل في ليبيا، سواء عبر عملية برلين، التي بدأت في يناير من العام الماضي، أو عبر محاولة دوله منع تصدير الأسلحة والمرتزقة إلى ليبيا، إلا أن تركيا- على سبيل المثال - وهي إحدى الدول الأعضاء في حلف الأطلنطي تحدت ولا تزال تتحدى الاتحاد الأوروبي، سواء بنقل المعدات والأسلحة إلى حكومة الوفاق، أو بنقل المرتزقة إلى ليبيا، وأشارت ستيفاني وليامز نائبة رئيس بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا إلى أن في ليبيا نحو 20 ألفا من المرتزقة من دول ومناطق مختلفة من العالم، وهناك بالطبع اتهامات متبادلة بين حكومة الوفاق وقوات حفتر بالاستعانة بمرتزقة أجانب. وفي ظل طبيعة الوضع على الأرض في ليبيا، فإنه لم يكن مصادفة أن تقوم حكومة الوفاق بإبرام اتفاقيات عديدة مع كل من تركيا، ومؤخرا مع إيطاليا، وهي اتفاقيات تحقق مصالح مباشرة وغير مباشرة لهاتين الدولتين في ليبيا في الحاضر والمستقبل بدرجة تدفع بكل منهما إلى العمل على الحفاظ على تلك المصالح الضخمة، بكل السبل الممكنة وخاصة من خلال الحفاظ على حكومة الوفاق، ومسؤوليها كذلك، كنوع من الضمانة لاستمرار تحقيق تلك المصالح وعدم تأثرها برحيل أي منهم أو بتغيير الحكومة مثلا. وعندما أعلن فايز السراج عزمه على الاستقالة في سبتمبر الماضي سعت أطراف عديدة على حثه على البقاء هو ووزير داخليته فتحى باشاغا ووزير دفاعه صلاح الدين النمروش، باعتبارهم الأركان الأساسية في حكومة الوفاق. وإذا كان الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى الرافعة الأمريكية، فإن روسيا سعت بالفعل إلى زيادة اهتمامها بالتطورات في ليبيا، سواء من خلال عناصر جماعة « واجنر » التي تقوم بتشغيل عناصر مرتزقة في ليبيا، أو من خلال زيادة اهتمامها بالأوضاع في ليبيا، ولم تكن مصادفة أن تعتقل حكومة الوفاق الليبية مواطنين روسيين اثنين اتهمتهما بالتجسس في مايو 2019، وقد تم الإفراج عنهما قبل أيام في مؤشر على رغبة حكومة الوفاق في تحسين العلاقات مع موسكو، ولعل زيادة الاهتمام الروسي واعتبارات أخرى - تحرك واشنطن لتهتم بالتطورات على الساحة الليبية وتدفع إلى الحل بعد تولي إدارة بايدن لمقاليد السلطة في واشنطن في العشرين من يناير القادم.

ثانيا: إن من الأمور المشجعة والباعثة على التفاؤل ولو النسبي، انه برغم حملات الانتقاد المتبادلة بين حفتر وحكومة الوفاق وتبادل الاتهامات من كل نوع، إلا أن الأشهر الأخيرة شهدت رغبة واستعدادا، بل وقدرة من جانب القوى والأطراف الليبية، في بنغازي وطرابلس وجنوب ليبيا، على التحرك نحو التمهيد لإيجاد مناخ أفضل والسعي إلى استعادة الثقة فيما بينها، وإيجاد أرضية مشتركة يمكن الانطلاق منها لاستعادة اللحمة الليبية ووحدة المؤسسات الليبية، وإنهاء مظاهر التقسيم والتفتيت التي يضر استمرارها بحاضر ومستقبل ليبيا الدولة والمجتمع الآن وفي المستقبل. وإذا كان هذا الاستعداد وتلك الرغبة للالتقاء بين القوى الليبية قد ارتبطت بإدراك تلك القوى لمخاطر استمرار التفكك والتقسيم والتي تؤدي فقط إلى الارتهان للقوى الإقليمية والدولية من ناحية، كما يعود إلى إدراك القوى الإقليمية لمخاطر الصدام المباشر بينها في ليبيا وتفضيلها العمل من وراء القوى الليبية المختلفة من ناحية أخرى، فإن النجاح في استئناف الحوار الليبي، واجتماعات لجنة 5+5 العسكرية في جنيف وجدامس وسرت الليبيتين والاتفاق على استمرار وقف إطلاق النار وعلى نزع الألغام وترحيل المرتزقة من ليبيا وفق جدول زمني يتم الاتفاق عليه، والتئام ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي يضم 75 شخصية كممثلين لمختلف القوى الليبية، في الشرق والغرب والجنوب والقبائل والأحزاب الليبية أكثر من مرة، واستئناف إنتاج وتصدير النفط الليبي والاتفاق على قواعد توزيع العائدات النفطية بين الأقاليم الليبية، وكذلك اجتماع مجلس النواب الليبي في طنجة بالمغرب يوم 23 نوفمبر الماضي، وفي جدامس الليبية يوم 8 ديسمبر الجاري حيث تم تأجيل الاجتماع حتى 21 ديسمبر الجاري لانتخاب رئاسة جديدة للمجلس، والاجتماعات بين المجلس الرئاسي ومجلس النواب الليبي في المغرب وتونس، والاتفاق في هذا الإطار على أسس وقواعد اختيار كبار المسؤولين الليبيين، والتوافق على أهمية وضرورة إعادة دمج مؤسسات الدولة الليبية بين الشرق والغرب وإنهاء عراقيل التواصل بين الجانبين وعودة رحلات الطيران بين بنغازي وطرابلس، والاقتراب من الاقتراع داخل ملتقى الحوار السياسي الليبي على اختيار رئيس المجلس الرئاسي ونائبيه ورئيس الوزراء، والاتفاق على تحديد يوم 24 ديسمبر 2021 لأجراء انتخابات عامة في ليبيا لإعادة تشكيل مؤسسات الدولة الليبية، وغير ذلك من الخطوات التي تسعى ستيفاني وليامز إلى التوصل إليها تشير بوضوح إلى جدية ورغبة الأطراف الليبية في السير نحو حل سلمي يحقق استعادة وحدة ليبيا مرة أخرى .

ثالثا : إن الخطوات المشار إليها، وبرغم إيجابيتها وأهميتها إلا أن الواقع هو أنها تظل قاصرة عن تحقيق اختراق حقيقي وعملي للحل بالنسبة للقضية الليبية، ليس فقط لأنها جميعها تقريبا وقفت أمام التناول العملي والمباشر لجوانب تمس الواقع السياسي الليبي على الأرض، وهو أمر من غير الممكن أن تتركه القوى الإقليمية والدولية المعنية بالوضع في ليبيا للقوى الليبية، لسبب بسيط هو أن كل تغيير محتمل سيؤثر بالضرورة على مصالحها بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي حين أعربت أنقرة عن قلقها من تواصل حكومة الوفاق مع كل من القاهرة وباريس، فإن الحكومة التركية أحالت إلى مجلس النواب مؤخرا قرارا بالموافقة على إبقاء القوات التركية في ليبيا لمدة 18 شهرا أخرى، كما أن إيطاليا أبرمت اتفاقية كبيرة للتعاون مع حكومة الوفاق في كل المجالات، وذلك كنوع من تأمين المصالح والتحسب لأية تغييرات محتملة في الوضع في ليبيا. وليس مصادفة أن تعود خلال الأيام الأخيرة الحملات والاتهامات المتبادلة بين حفتر وحكومة الوفاق، بما في ذلك الاتهامات بحشد أسلحة وتحريك ميليشيات وخرق لاتفاق وقف إطلاق النار وغيرها، كما أن الاجتماع الافتراضي الأخير لملتقى الحوار السياسي الليبي يوم 10 ديسمبر انتهى دون التوصل إلى اتفاق حول آلية اختيار كبار المسؤولين لرئاسة المجلس الرئاسي ورئاسة الحكومة .

وفي ضوء ذلك فإنه من غير المحتمل أن تحقق الأوضاع في ليبيا اختراقا إيجابيا خلال الأسابيع القادمة إذ أن الجميع سينتظر إدارة بايدن وما يمكن أن تقوم به لإنهاء الأزمة الليبية وبعض الأزمات الأخرى في المنطقة، وعندئذ ستكون الرافعة الأمريكية كافية للدفع على مسار الحل السلمي للأزمة، خاصة إذا توافقت الأطراف الإقليمية والدولية على تبادل وتوزيع وتعايش المصالح فيما بينها، وهو أمر ضروري لاستقرار ليبيا، خاصة بعد أن تأكد كل طرف أنه لا يمكنه طرد أو إبعاد الطرف الآخر المنافس له، فهل يتحقق ذلك؟.