أفكار وآراء

في المواطنة وجدل الهويات التاريخية

09 ديسمبر 2020
09 ديسمبر 2020

محمد جميل أحمد -

فيما يدور جدل مستمر حول قضايا الهوية التي عكست تيارا ارتداديا صاحب ظاهرة العولمة، لا سيما في مجتمعات العالم الثالث، وحتى بعض مجتمعات العالم الأول؛ كأطروحة: «الاستثناء الثقافي» التي واجهت بها فرنسا تيار العولمة، يبدو اشتباك جدل الهويات التاريخية والمواطنة هو الأكثر بالتأمل في الجدوى، خصوصا في مجتمعات العالم الثالث، التي يتمثل كثيرون فيها قضايا من قبيل: المواطنة، والهوية، والتنوع الثقافي، بصورة قد تعكس تشويشا مستمرا حيال هذه القضايا الثلاث التي ليس بالضرورة أن تكون على سوية واحدة من التمثل.

فمن ناحية، إذ تعتبر المواطنة شرطاً شارطاً وعابراً للجميع في أي محاولة لاستقرار الاجتماع السياسي في أي دولة من دول العالم، لا تبدو مسألة الهوية بتلك الحيثية بالضرورة ناهية عن مسألة التنوع الثقافي!

بل بدا واضحاً في بعض بلدان العالم الثالث التي عانت من حروب أهلية طويلة الأمد، ومن تسلط أنظمة شمولية، كالسودان، أن مسألة الهوية بدت كما لو أنها أقنوم مستقل يتم تمثله لذاته وبغير أي تأويل وطني يعكس رمزيته. وفي الحقيقة لقد كان علو الصوت الذي ظل يطالب بالهويات الطرفية التاريخية وأدخل حتى عناوينها في حركات احتجاج سياسي، كمؤتمر البجا في شرق السودان، وحركة كوش، وغيرهما كان في حقيقته تعبير عن أزمة المواطنة.

ليس في وسع أي تمثل للهوية التاريخية المتصلة بمجتمعات طرفية أن يكون بحذافيره التاريخية تعبيرا معاصرا، لسبب بسيط جدا؛ هو أن التعبير التاريخي لتلك الهوية الطرفية كف عن أن يكون بحذافيره قادرا على إنتاج قيم معاصرة تستقطب تناقضات الواقع التاريخي الذي نشأت فيه تلك الهويات، فضلا عن أنه؛ كيف يمكن استعادة تلك الهويات التاريخية الميتة في إطار هوية ثقافية واحدة إن لم يكن تمثلها تعبيراً رمزياً فقط وفي إطار أيدلوجيا وطنية للهوية السودانية المعاصرة مثلاً؟ هكذا سنجد أن قيمة المواطنة هي الشرط الشارط للاستحقاق العابر لكل مواطن في أي دولة؛ فالمواطنة، بالإضافة إلى أنها قيمة معاصرة وتمثلها هو بالضرورة تمثل حقوقي ملموس بمعنى واضح، وتصورها أيضا تصور ملموس بمعنى أكثر وضحاً، فهي التي تضمن في شروطها تمثيلات معينة للهويات التاريخية بطرق رمزية، فيما يمكننا أن نتوقع في أي تعبير سياسي فج يحاول استعادة هوية تاريخية ما بحذافيرها وبطرق ديماغوجية؛ إهدارا لقيمة المواطنة بحقوق آخرين، وهذا أخطر ما يمكن أن ينطوي عليه التمثل الفج للهويات التاريخية، لاسيما في الأوضاع غير المستقرة التي تمر بها المجتمعات في العالم الثالث. ذلك أن سقف التخلف سيكون الضرورة هو ذاته سقف التمثل لهكذا هويات ومن ثم فإن قدرة انبعاث هذه الهويات الخام على إعاقة الحاضر سيكون أكثر بكثير من شعارات سردياتها المضللة، هذا فضلاً عن الاختلاف والشقاق في ذات التمثل للهوية بين من يتمثلونها بطرق ديماغوجية كما يمكننا أن نرى ذلك في الأطروحة الشعبوية والقبائلية الضارة التي يتمثلها بعض مجموعات شرق السودان بطريقة تقصي طرفاً آخرا في الهوية التاريخية. وهكذا سنجد مثل ذلك في الجدل الذي يثيره البعض في شمال السودان في موضوع هوية كوش والنوبة، إلى غير ذلك من جدل الهويات التاريخية.

بطبيعة الحال تمثل الهويات التاريخية في هوية وطنية معاصرة سيطرح بالضرورة قضية إدارة التنوع الثقافي باعتبار الثقافة هي إحدى عناصر الهوية التاريخية لكل هوية طرفية. وهنا أيضا سنجد أن أي دعوة إلى تصور لا تاريخي لقضية إدارة التنوع الثقافي ستكون دعوة عدمية وغير منتجة للمعنى الذي يختبر الهوية الثقافية العامة ضمن إطار المواطنة.

فإدارة التنوع الثقافي لا تعني بالضرورة أن يستقل كل أهل ثقافة طرفية بتعميم لغاتهم وأنماط تعبيرهم الثقافية بموازاة الهوية الوطنية الجامعة واللغة الوطنية الجامعة أيضا. ذلك أن أي تصور لاستقلال كل هوية وثقافة محلية بحيثيات تعبيرها بموازاة لغة الدولة العامة مثلا، أي في مواجهة ضدية متوهمة لثقافة ولغة الدولة بدعاوى غير حقيقيةـ، سيكون بمثابة سردية مضللة؛ كما يدعو بعض المثقفين السودانيين لاعتبار اللغة العربية «غنيمة حرب» أو تصويرها كلغة على قياس التعبيرات اللغوية للفرنكوفونية مثلا في المجتمعات العربية والأفريقية. وهي في حقيقتها دعوى قائمة على قياس فاسد ولا تتصل جدواها بأي تأمل على طبيعة القوانين التاريخية والثقافية والإنسانية لتوطن اللغة العربية في السودان مثلا.