أفكار وآراء

التحولات المحتملة للسياسة الخارجية الأمريكية : الأزمة الإيرانية

07 ديسمبر 2020
07 ديسمبر 2020

د. صلاح أبونار -

جاءت التطورات المتلاحقة للأزمة الإيرانية على مدى الأشهر الثلاثة الأخيرة، والتي وصلت ذروتها مع اغتيال العالم النووي محسن فخر زاده، لكي تشدد على وضع الأزمة الإيرانية على رأس أولويات الرئيس الأمريكي المنتخب في الشرق الأوسط. ويثير هذا التساؤلات التالية : كيف يرى بايدن وفريقه وجهة ومكونات سياسته الإيرانية؟ ما هي السياقات الجديدة التي تفرض نفسها عليها وتعمل على تشكيلها؟ يمكننا التمييز بين سياقين يساهمان في تشكيل التوجه الأمريكي الجديد. أولهما السياق الإيراني. كان لسياسة العقوبات التي اطلقها ترامب بعد الخروج من الاتفاقية النووية، المعروفة باسم «خطة العمل المشتركة الشاملة»، تأثيرها المدمر على الاقتصاد الإيراني. في 2010 كان معدل نمو الدخل القومي الحقيقي 5.7%، وعندما اطلق أوباما عقوباته انخفض إلى 7.7% سالب. ومع رفعها بعد توقيع «خطة العمل» في 14 يوليو 2015، ارتفع من 1.6% سالب في 2016 إلى 9.1% موجب في 2017 وإلى 9.6% موجب في 2018. ومع إطلاق ترامب لعقوباته انخفض إلى 5.4% سالب في 2019. والأمر نفسه في معدل التضخم. في ذروة عقوبات أوباما 2013 قفز إلى 34.7%، ومع رفعها انخفض إلى 9.6% عام 2017، ومع إطلاق ترامب لعقوباته أصبح 41% عام 2019. ومن شأن هذا الضغط الهائل على نظام من النمط الإيراني أن يولد مزيجا من الرغبة في التكيف السياسي والنزوع للمواجهة. وجاءت المواجهة عبر السعي لتطوير البرنامج النووي. وفقا لتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومعها كل القوى الدولية الضالعة في الاتفاقية، احترمت إيران كليا التزاماتها وتعاملت بإيجابية كاملة مع أي شكوك واجهتها. ومع خروج ترامب من الاتفاقية في 8 مايو 2018 شرعت في الخروج عن التزاماتها، ولكن من منتصف 2019 أي بعد عام من الخروج الأمريكي، لإثبات حسن نيتها ولإتاحة الفرصة للشركاء الدوليين لإصلاح الموقف. واتخذ خروجها خطوات متصاعدة : في 1 يوليو 2019 رفعت القيود على مخزونها من اليورانيوم المخصب والماء الثقيل، وفي 7 يوليو بدأت تخصيب اليورانيوم بدرجة 4.5% لتوفير وقود لمفاعل بوشهر، وفي 5 سبتمبر رفعت القيود على البحث والتطوير في أجهزة الطرد المركزي وشرعت في بناء أجهزة متقدمة، وفي 5 نوفمبر 2019 استأنفت التخصيب في مفاعل فوردو، وفي 5 يناير 2020 أسقطت القيود على عدد أجهزة الطرد المركزي المشغلة. وكانت كلها قرارات علنية أبلغتها لوكالة الطاقة الذرية، وبعد القرار الأخير أعلنت رسميا أنه يحررها من كافة قيود التخصيب ولم يعد هناك ما يقيدها سوى قدراتها التقنية، لكنها لاتزال راغبة في العودة للاتفاقية إن عادت واشنطن. ما الذي أسفر عنه هذا التحرر؟ نعلم إن اتفاقية 2015 لا تسمح لها بأكثر من 202.8 كيلو جرام من اليورانيوم منخفض التخصيب، ولكن وفقا لتقارير «مرصد الطاقة الذرية العالمي» التابع للوكالة، اصبح مخزونها1571 كيلوجراما في 20 مايو، وقفز إلى 2105.5 في 25 أغسطس، ليقفز مجددا إلى 2442.9 في الأسبوع الثاني من نوفمبر. وإذا كانت التقارير لاتزال تتحدث عن يورانيوم منخفض التخصيب، سنجدها تشير في أوائل سبتمبر إلى قيام إيران ببناء موقع تحت الأرض في مفاعل ناتانز يحتوي على أجهزة طرد متقدمة، الأمر الذي يعني التخطيط لرفع مستوى التخصيب. بماذا تخبرنا تلك التطورات؟ في وجهها المؤكد تشير للرغبة في تطوير القدرات النووية، كأداة للضغط السياسي للعودة إلى الاتفاقية ورفع العقوبات. وفي وجهها المحتمل تشير للرغبة في تطوير قدراتها النووية بما يجعلها أقرب لإنتاج سلاح نووي، إذا قررت ذلك في مواجهة الضغوط العدائية المتصاعدة وفشل العودة للاتفاقية. وثاني تلك السياقات تصاعد التوترات والصراعات الإقليمية والدولية. تصاعدت وتيرة التوترات والصراعات مع الانسحاب الأمريكي، الأمر الذي خلق حالة تحفز من خصوم إيران الإقليميين وتصاعدا في قوة وتدخلية الدور الإيراني الإقليمي، وتزايد احتمالات الصدامات العسكرية الإقليمية بينهما. وخلال الشهور الممهدة للانتخابات الأمريكية والتالية عليها تزايدت احتمالات الصدام. وتبدى ذلك في التحالفات التي نجحت إسرائيل في تشكيلها مع بعض القوى الإقليمية، والتي يتخطى منطقها المكون مجرد آليات التطبيع. ثم ظهر في تصاعد احتمالات الصدام الأمريكي المباشر مع إيران، عندما طرح ترامب على مساعديه أوائل نوفمبر وفقا للنيويورك تايمز في 16 نوفمبر، إمكانية اتخاذ قرار بتوجيه ضربة عسكرية لمنشآت إيران النووية في مواجهة إنشاء وحدة ناتانز النووية، ولم يجد الاقتراح تأييدا لكنه يخبرنا بالاحتمالات التي يمكنه الانزلاق إليها في أسابيعه الأخيرة. وأخيرا تبدى في اغتيال العالم النووي الإيراني البارز محسن فخر زاده في 27 نوفمبر والذي نسبته إيران لإسرائيل، والذي ينذر بضربات مماثلة قد تفجر صدامات بينهما. سنعثر داخل نصوص سياسة بايدن الخارجية، من أول مقالته في فورين آفيرز مارس - أبريل 2020 مرورا بخطاب نيويورك يوليو 2019 وحوار مجلس العلاقات الخارجية أغسطس 2019 وانتهاء بالبرنامج الحزبي 2020، على مزيج من تقييم الوضع الراهن للأزمة الإيرانية والمبادئ العامة الموجهة للسياسة التي سينتهجها. وفقا لها شكلت «خطة العمل» إنجازا تاريخيا أغلق طريق السلاح النووي، ولم يفعل الخروج منها وفرض العقوبات سوى هدم المصداقية الأمريكية، ومواصلة إيران طريقها النووي، ونشر الصراعات المهددة بحروب خطرة. وليس أمام أمريكا سوى العودة للدبلوماسية الجماعية تحقيقا لهدفين. هدف إحياء الاتفاقية عبر الالتزام الأمريكي - الإيراني المتبادل بها، مع تشديد القيود المفروضة على النشاط النووي وآليات مراقبة الالتزام الإيراني. وهدف احتواء النتائج المترتبة على تطوير إيران لبرامجها الصاروخية وسياساتها الإقليمية النشطة.

ويشكل الهدف الأول انقلابا كاملا على سياسات ترامب عبر العودة لتراث أوباما - بايدن. وتشير الوثائق أنها عودة ستحمل تشددا في المعايير الحاكمة للمسار الإيراني، وسيكون على الأرجح تشددا هامشيا لأننا لا نجد في النقد المتوازن للاتفاقية ما يشير لثغرات تمكنت إيران من استغلالها. والأرجح أن هذا الهدف سيواجه معارضة قوى إقليمية. ولكن إذا بحثنا عن العلة العميقة للمعارضة فلن نجدها في المعايير المطلوبة لضبط السلوك النووي الإيراني، بل في صراعات إقليمية تمزج بين صراعات القوى والهوية والتحرر الوطني. كيف ترى الإدارة الأمريكية طريقها صوب الهدف الثاني؟ يشكل ضبط واحتواء سلوك إيران الإقليمي وبرامجها الصاروخية وليس هدف ضبط معايير تسيير مشاريعها النووية، الهم الحقيقي للفريق الأكبر من القوى الإقليمية المناهضة لإيران. وسنجد داخل وثيقة برنامج الحزب إشارة تؤكد على وعى صانع الاتفاقية الأمريكي بمركزية المشكلة وضرورة مواجهتها عند توقيع الاتفاقية، وتخطيطه لتناولها عبر مسار تال على المسار النووي ومنفصل عنه. ولن نجد داخل الوثائق ما يخبرنا عن كيفية الربط الموضوعي بين المشكلتين، لكننا سنجد تصورا لذلك في حوار أجراه جون الترمان مع جيك سوليفان، ونشره موقع « مركز الدراسات الدولية الإستراتيجية» الأمريكي في 23 يونيو 2020. وسوليفان هو الأكثر تأهيلا ليمنحنا الخطوط الأساسية لهذا التصور. ليس فقط لأنه مستشار الأمن القومي القادم لبايدن، وبالتالي المخطط الرئيسي لسياسته الخارجية. بل أيضا لعمق تداخله مع العملية التفاوضية التي قادت لاتفاقية 2015، من مفاوضات مسقط التمهيدية حتى المفاوضات الرسمية. ولقوة تداخله مع إدارة رئاسة أوباما - بايدن، حيث شغل منصب مستشار بايدن للأمن القومي، ونائب مدير إدارة تخطيط السياسة الخارجية مع كلينتون وزيرة خارجية أوباما. بماذا يخبرنا مستشار بايدن للأمن القومي؟

لا يشعر سوليفان بالقلق تجاه انتخابات الرئاسة الإيرانية في يونيو 2021. وبافتراض أنها ستأتي برئيس متشدد ومعه تحالف متشددون، فليس الرئيس من سيحدد السياسة الإيرانية تجاه العودة الأمريكية، بل ستتحدد عبر توافق القوى داخل مؤسسات النظام متعدد المراكز. وفي كل الأحوال لن يتحدد رد فعل تلك القوى وفقا لموقف مسبق، بل وفقا لطبيعة العرض الأمريكي المقدم لها والقادر على دفعها للمفاضلة بين مواصلة التعرض للعقوبات والحصار وتقديم تنازلات تتيح التحرر منها. وتحمل تلك الملاحظة قدرا عاليا من الصواب. فنحن نجد ما يؤيدها، داخل حوار آخر لآلتمان مع متخصصة إيرانية بارزة تدعى سانام فاكيل، نشر على موقع نفس المركز في 15 نوفمبر الماضي. ويقر سوليفان بعمق أزمات السياق الإقليمي والدولي ومدى الاختلاف الذي تشكله عن سياقات 2015، لكنه يرفض تماما سياسة ترامب التي ربطت رسميا وآليات التقدم في السياق النووي بالتنازلات الإيرانية في السياق الآخر، وبالتالي دمجت السياقين في عملية تفاوضية رسمية واحدة، كما تبدى في خطاب الإثني عشر شرطا الذي ألقاه بومبيو في 21 مايو 2018 في مؤسسة التراث. وبدلا من ذلك يرى أنه من الضروري البدء بالملف النووي دون ربطه رسميا بالملف الإقليمي، لأن الملف النووي هو الأخطر والأجدر بالوصول لحل سريع لتحدياته، ولأنه بطبيعة تناقضاته وتعدديته بطيء التقدم وبالتالي لا يصح جعل الملف النووي رهينة لتقدمه، ولأن الإيرانيين فقدوا الثقة تماما في السياسة الأمريكية ويتطلب الطريق لاستعادتها تحقيق تقدم سريع في الملف النووي. ويرى ضرورة أن يتخذ الملف الإقليمي مسارا تفاوضيا إقليميا مستقلا، لا تمثل الولايات المتحدة طرفا فيه لكنها ليست معزولة عنه. وعليها أن تنشط لتربطه موضوعيا وليس رسميا وتفاوضيا بالملف النووي، وذلك عبر تسهيل مفاوضاته وتوافقاته وتقديم الدعم المطلوب لأطرافه، والربط على مدى زمني طويل بين سياسة رفع العقوبات وإنجازاته.