أفكار وآراء

قرار يحتاجه الفلسطينيون .. والعالم أيضا!!

30 نوفمبر 2020
30 نوفمبر 2020

د. عبدالحميد الموافي -

إذا كان من المعروف أن هناك قضايا ومشكلات إقليمية ودولية تستمر لعقود حتى يتم التوصل إلى حلول ممكنة لها، فإن قضايا التحرر الوطني بوجه عام، والقضية الفلسطينية في مقدمتها بوجه خاص، هي من أقدم قضايا التحرر الوطني، وآخرها أيضا، كما أنها من أقدم القضايا المدرجة على جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة وعدد غير قليل من هيئاتها منذ السنوات الأولى لإنشاء المنظمة الدولية الأم عام 1945.

ولعله من الأهمية بمكان المسارعة إلى التأكيد على أنه ليس من أهداف هذا الموضوع الغوص في تاريخ القضية الفلسطينية، خاصة أن هناك اتجاها متزايدا من جانب بعض الأطراف العربية لإهالة التراب على الماضي، بدعوى أنه ماضٍ، وأن بعض العقود مرت على أحداثه، ومن ثم فإنه يجب تجاوزه بزعم أن الأوضاع والمفاهيم والمصالح والحسابات تتغير، وأن العالم والمنطقة في مرحلة جديدة الآن، وتحتاج القضايا إلى نمط جديد في التناول والتعامل معها ومعالجتها، وبما يتجاوز ما كان قائمًا ومستقرًا في مواقف وسياسات ونظرة دول وشعوب المنطقة على مدى عقود عديدة، سواء بالنسبة للقضية الفلسطينية، أو بالنسبة للنظرة إلى إسرائيل وأسس التعامل معها.

ومع اليقين بأن لكل طرف عربي وإقليمي ودولي الحق في تقدير مصالحه الوطنية وحساباته وتحديد خياراته وسبل تحقيقها وإجراءات التعامل معها في الظروف المختلفة، من منطلق مبدأ السيادة الوطنية، برغم أن هناك مبادئ أخرى لها وزنها وقيمتها السياسية والأدبية والتاريخية في حسابات العلاقات بين الدول العربية وبعضها وهو ما يفتح، أو قد يفتح المجال لجدل من الأفضل تجنبه الآن، فإن المفارقة تكمن في الواقع في حقيقة أن الطرف الذي يسير نحو تغيير قناعاته وحساباته ومواقفه أيضا، أو بعضها، هو الطرف العربي، أما الطرف الآخر -أي إسرائيل- فإنها للأسف تتمسك ولا تزال تتمسك بمواقفها ورؤيتها وكذلك بأطماعها غير المشروعة وبسياساتها العدوانية حيال الفلسطينيين والعرب من حولها، بل وتزداد تشددا في التمسك بها، ولا تقول بتغييرها أو بتعديلها إلا لتحقيق مزيد من الأطماع على حساب الفلسطينيين والعرب، مع الدعوة الدائمة للعرب والفلسطينيين بالتخلي عن مواقفهم وتعديل رؤاهم وحساباتهم لصالح إسرائيل، وكأن التاريخ والزمن يسير فقط لحساب إسرائيل وضد المصالح العربية والفلسطينية بشكل أخص.

ومع فهم وإدراك مختلف العوامل والأسباب العربية والإقليمية والدولية، والإسرائيلية أيضا، التي تدفع نحو ذلك، إلا أن قضايا الشعوب وحقوقها الوطنية لا تسقط بالتقادم بالتأكيد، وأن مرور الزمن وتطاول الاحتلال عليها، لا يبرر أبدا التخلي عنها، وفي هذا المجال يظل التاريخ والتطورات الحيوية فيه عنصرًا مهمًا وداعمًا لتلك الحقوق، خاصة إذا أمكن الانتباه إليها وتوظيفها على نحو صحيح لخدمة تلك الحقوق، والإبقاء عليها في مواجهة كل محاولات طمسها والافتئات عليها.

وفي هذا الإطار تبرز أهمية واحد من أهم القرارات الدولية المبكرة الخاصة بالقضية الفلسطينية، ونعني به القرار رقم 181 للجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 29 نوفمبر عام 1947 والخاص بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية وإسرائيلية وتحديد نظام خاص لإقليم القدس بحكم ما يحويه من مقدسات، وأهمية أن يكون هذا الإقليم له إدارته الذاتية التي تضمن له علاقات مفتوحة مع كل من الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية من ناحية، وضمان إتاحة زيارة الأماكن المقدسة فيه للطوائف الدينية الثلاث، أي للمسلمين والمسيحيين واليهود، وهو ما يسهم في تحقيق الاستقرار. وأمس الأول (الأحد) مرت الذكرى الثالثة والسبعين لصدور هذا القرار الدولي، وهو ما يقتضي التوقف قليلًا أمامه، خاصة في الظروف الإقليمية والدولية الراهنة.

وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا: أنه في ظل الصفة التي تحملها إسرائيل منذ عقود وهي أنها خارجة على الشرعية الدولية، وأنها لا تلتزم بقرارات الأمم المتحدة ولا بقرارات غيرها من المنظمات الدولية، إلا إذا كانت تحقق مصالحها حسبما يراه قادتها، فإن هناك من يشككون بالطبع في جدوى استدعاء هذا القرار -القرار 181 للجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947- سواء لأنه مضى عليه أكثر من سبعين عاما، أو لأنه قرار صادر من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومعروف أن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة لا تحمل في ذاتها صفة الإلزام والقوة التي تحملها قرارات مجلس الأمن الدولي مثلا، غير أن ذلك مردود عليه سواء بحكم أن القرارات الدولية لا تسقط بالتقادم، وأنها لا تفقد قيمتها بمرور الوقت، طالما أن القضية المتعلقة بها لا تزال قائمة من ناحية، وأن حقوق الشعوب في الاستقلال والتحرر الوطني لا تسقط هي الأخرى بالتقادم، وأن هناك أمثلة عديدة، عربية وغير عربية، استقلت فيها الشعوب بعد مرور عقود عديدة على استعمارها من ناحية ثانية.

يضاف إلى ذلك أنه برغم ما يتصل بالطبيعة القانونية لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أن القرار رقم 181 المشار إليه يكتسب أهميته وقيمته من اعتبارين أساسيين، أولهما أنه يعبر عن موقف المجتمع الدولي ممثلًا في الجمعية العامة للأمم المتحدة وتأييدها للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني من جانب، وهو أمر له أهميته المعنوية والسياسية، أما الاعتبار الثاني فيتمثل في الأهمية القانونية الكبيرة لهذا القرار باعتباره القرار الدولي الذي شكل أساس قيام إسرائيل كدولة على مساحة محددة من فلسطين، وذلك من خلال تقسيمه للأراضي الفلسطينية. ومن ثم فإن إسرائيل في الاحتكام إلى هذا القرار بالنسبة لها ولوجودها، وحتى للاعتراف الدولي بها بعد ذلك، لا يمكنها أن تأخذ بنصف القرار الذي يخصها وتتنكر إلى الأجزاء الأخرى من القرار الخاصة بقيام دولة عربية في فلسطين، وكذلك الجزء الخاص بوضع إقليم القدس.

صحيح أن الدول العربية رفضت قرار التقسيم عند صدوره، وهو ما أدى إلى حرب عام 1948، ولكن الصحيح أيضا أنه من غير الممكن تجاهل هذا القرار وإقراره بوجود الدولة الفلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلية في فلسطين، وأنه لا يمكن الاستناد إلى سياسة الأمر الواقع الإسرائيلية، سواء في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، أو بعد حرب عام 1967 لتبرير التوسع الإسرائيلي وعمليات الاستيطان المسعورة ضد الأراضي الفلسطينية وهي السياسات الجارية وبشكل يتصاعد باستمرار من جانب حكومة نتانياهو، خاصة في القدس الشرقية والضفة الغربية بوجه عام.

وعلى ذلك فإنه من المهم والضروري العناية بهذا القرار والتركيز عليه، إلى جانب القرارات الأخرى الدولية وهي عديدة، من جانب الأشقاء الفلسطينيين ومن جانب كل الأطراف العربية والإقليمية والدولية الداعمة للحقوق الفلسطينية، خاصة أنه يمكن أن يكون بعد ذلك أحد أسس إقامة وتنفيذ حل الدولتين، الذي تحاول حكومة نتانياهو إجهاضه بشكل كامل وتعويق إمكانية تطبيقه بكل السبل الممكنة.

ثانيا: إنه مع الوضع في الاعتبار التأثير الذي تتمتع به الولايات المتحدة على المستوى الدولي، وداخل الأمم المتحدة، إلا أنه من غير الممكن النظر إلى الموقف الأمريكي في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب، وما اتخذه من مواقف تتماهى تماما مع أطماع إسرائيل، وعلى حساب الفلسطينيين، على أنه موقف مسلّم به، أو أنه ينبغي التسليم به لأنه صادر من جانب ترامب، ليس فقط لأن موقف إدارة ترامب خالف مواقف كل الإدارات الأمريكية السابقة حيال القضية الفلسطينية بأبعادها المختلفة، ولكن أيضا لأن ما يتخذه الرئيس الأمريكي ترامب من مواقف على أساس حسابات مصالح إدارته أو مصالحه الذاتية لا ينبغي أن يدفع الفلسطينيون ثمنه من أرضهم ومستقبل وطنهم وحياتهم، يضاف إلى ذلك أن تلك المواقف سيتم على الأرجح التراجع عن عدد منها بعد أن يتولى جو بايدن منصب الرئيس الأمريكي في العشرين من يناير القادم، وهناك بالفعل اتصالات فلسطينية مع عدد من المحيطين بالرئيس المنتخب تمهيدًا لذلك.

وكما اندثرت صفقة القرن الترامبية ستندثر خطوات ومواقف أخرى اتخذتها إدارة ترامب خلال السنوات الأربع الماضية، خاصة بالنسبة للقضية الفلسطينية ولبعض قضايا المنطقة الأخرى. وذلك لسبب بسيط هو أنه من غير الممكن أن تحل الولايات المتحدة محل المجتمع الدولي، صحيح أنها مؤثرة سياسيًا وعلى المستويات الأخرى، ولكن انحيازاتها المبدئية والجامحة تؤثر بالضرورة على تلك المواقف، بل وتعرقلها، وهو ما شهدته المنطقة في السنوات الأخيرة. ولعل الإدارة الأمريكية الجديدة تستطيع إعادة المواقف الأمريكية إلى ما كانت عليه قبل إدارة ترامب بشكل أو بآخر، وهو ما ستعارضه حكومة نتانياهو بالتأكيد وبكل السبل الممكنة.

ثالثا: إنه في الوقت الذي تزداد فيه أهمية الاستفادة الفلسطينية الحقيقية من القرارات الدولية المؤيدة للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ومنها القرار 181 للجمعية العامة للأمم المتحدة، فإنه من الطبيعي ان تحاول القيادة الفلسطينية تلمس وبناء التأييد للحقوق الفلسطينية على كل المستويات عربيًا وإقليميًا ودوليًا، نظرًا للأهمية السياسية والعملية لذلك، ودون الدخول في خلافات أو تراشقات لا لزوم لها مع أي طرف.

ولعله من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن تحقيق السلام والاستقرار والأمن لكل دول وشعوب المنطقة يمر بالضرورة بالتوصل إلى حل سلمي دائم وعادل للقضية الفلسطينية، بما في ذلك إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وإعادة إسرائيل الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967.

وفي ضوء ذلك فإن السلام والأمن والاستقرار في المنطقة لن يكون «سلامًا إسرائيليًا» أبدًا، فإسرائيل لن تتمكن ولا تستطيع أن تفرض سلامها وخياراتها على الدول العربية وعلى الشعب الفلسطيني، بل سيظل الشعب الفلسطيني القوة النهائية في حماية مصالحه الوطنية، بما في ذلك التوصل إلى حل عادل وشامل ودائم لقضيته العادلة، ولذا فإنه من المهم والضروري أن تقوم القيادة الفلسطينية بإعادة تقييم مختلف الجوانب ذات الصلة بالموقف الفلسطيني وعوامل دعمه وتقويته فلسطينيًا وإقليميًا ودوليًا، بما في ذلك محاولة استعادة الوحدة الفلسطينية بمشاركة مختلف الفصائل الفلسطينية، وصياغة موقف فلسطيني يحظى بأكبر قدر ممكن من الإجماع الفلسطيني، والدعم العربي، وبما يسد الطريق أمام محاولات هذا الطرف أو ذاك توظيفه لخدمة مصالحه الذاتية تحت ظرف أو آخر، ولعل الفترة القادمة تكون مواتية لتحقيق ذلك. أما حكومة نتانياهو فإنها ستعمد إلى خلط الأوراق داخل إسرائيل وعلى المستوى الإقليمي لاستنزاف إدارة بايدن وإضاعة الوقت لخدمة أغراضها ومطامعها، ولن يحد من ذلك إلا وجود موقف فلسطيني وعربي قوي ومتماسك ومستعد للسير نحو تسوية عادلة وشاملة يتم بموجبها إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وهي مساحة تظل أقل من المساحة التي حددها القرار 181 للجمعية العامة للأمم المتحدة قبل 73 عاما، وهو القرار الذي يحتاجه الفلسطينيون والعالم أيضا اليوم أكثر من أي وقت مضى.