أفكار وآراء

ثمة مسافة فاصلة بين المطلق والنسبي

08 نوفمبر 2020
08 نوفمبر 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

يمثل تطور الحياة وتقدمها إحدى الحقائق الوجودية التي لا يختلف عليه اثنان، وهو منهج يسعى إلى تحقيقه كل فرد على مستوى حياته الخاصة والعامة على حد سواء، إلا أن هذا التطور محكوم بالكثير من الإشكاليات، والمحددات، والنظم، والاجتهادات، بعضها من فعل الإنسان نفسه؛ في تجربة الخطأ والصواب، وبعضها الآخر من المسلمات التي لا يملك الإنسان يدا طولى في تفكيك حزمها التي تأتي هكذا بشموليتها.

وإما أن تتركها بالمطلق؛ ولكن على الرغم من هذا الحاجز الصادم لرؤى الفرد في تحجيم نشاطه هذا، في جانبه المطلق على وجه الخصوص، فإن ما هو غير متاح له لا يتعدى نسبة كبيرة من بقية ما يتاح له أن يقول ويفعل فيه ما يريد، ويجتهد فيه ما يمكنه، وتشير بعض المصادر أنها لا تتجاوز الـ (10%) فقط، وأما الـ (90%) الباقية فهي متاحة لكل من له القدرة على الاجتهاد، والبناء والتطوير في كل زمان ومكان، وتلبية لكل الظروف تعيشها الحياة، وتتطلبها.

ينظر إلى العلاقة بين النسبي والمطلق على أنها صراع بين طرفين؛ ربما غير متكافئين؛ وغير التكافؤ هو ما تشير إليه النسب السابقة أعلاه، حيث يحجز المطلق ما نسبته الـ (10%) وتبقى المساحة المتبقية مشرعة الأبواب لأي مجتهد، وفق مستوى النسبية التي يتحرك من خلالها، حيث تذهب النسبية هنا إلى عوامل كثيرة مرتبطة بالفرد نفسه؛ كفرد؛ وبالفرد مع الجماعة، أو الجماعة كلها عندما تجتمع على إنجاز عمل ما، حيث تتمايز القوى والأفكار، والرؤى بين كل فرد وآخر بنسبية معينة، على مستوى الجماعة الواحدة، حيث لا يعقل؛ منطقيا؛ أن تتكافأ كل هذه العوامل المحفزة للعمل عند كل المجموعة، وإلا عد هذا ضربا من الخيال، ولا يمكن قياسه على البشر، وحتى وإن أسند إلى عمل الآلة، فلا بد أن يتدخل الخطأ البشري فيها لسبب بسيط وهو أنها من صنعه.

حتى عهد قريب؛ كما قرأت؛ نظر إلى أن الزمان والمكان أمران مطلقان، حتى جاءت النظرية النسبية للعالم الألماني (انشتاين) الذي استطاع إرباك هذه القناعة، وتفكيكها، حيث استطاع بتجاربه العلمية أن يثبت أن هذين العنصرين نسبيين، ويحدد نسبيتهما الضوء الفاعل بين طرفي المعادلة «قد تتجسد الفكرة الأكثر أهمية في النسبيّة الخاصة في أن الزمن والمكان ليسا خلفية مقدسة وثابتة للكون، وإنما أشياء قد تتغير من نقطةٍ لأخرى ومن شخصٍ لآخر» - حسب: nasainarabic.net (المصدر) وهذه المسألة لا تخلو من التعقيد، وتحتاج كثيرا إلى جانب من التخصص؛ غير المنكور؛ والحديث هنا لا يدخل في التفاصيل العلمية للنظرية النسبية، ولكن يذهب أكثر إلى إيجاد مقاربة مفاهيمية يمكن توظيفها في واقع حياتنا اليومية، وكيف يمكن لنا أن نعي الكثير من اشتغالاتنا اليومية في هذه الحياة على أنها واقعة في الدائرة الـ «نسبية» وأنه لا توجد أحكام مطلقة، ولا قناعات مطلقة، ولا نهايات مطلقة، ولا قيم مطلقة - كتوظيف - أما - كما مفاهيم - فهي تحافظ على مطلقيتها: فالكرم هو الكرم، والشجاعة هي الشجاعة، والصدق هو الصدق، والأمانة هي الأمانة، أما توظيف كل ذلك على واقع الناس، فذلك خاضع لكل فرد أو جماعة على حده، سواء في استخدام الوسائل، أو في الكيفية التي تؤدى بها هذه القيم، وبالتالي فكل ذلك يبقى خاضعا للمسألة النسبية إلى حد كبير.

من الرؤى المطروحة في هذه المناقشة أيضا؛ أن القيمة المطلقة للحياة؛ في عناوينها العريضة: العدل الظلم، الشرق الغرب، الغنى الفقر، النور الظلام، العمل البطالة، العلم الجهل، أوجه العنصرية المختلفة، الذكر الأنثى، الحياة الموت، السلام الحرب، القانون الفوضى، وفي المقابل تتمثل القيم النسبية في كل هذه القيم المطلقة في قدرة الناس على التكيف مع كل هذه العناوين، وتفكيكها في الممارسة، لأن في كل منها؛ في الواقع العملي؛ توجد نسب متفاوتة، سواء في التوظيف «الممارسة» أو في الاستيعاب، فكل هذه المحددات المهمة في الحياة يتفاوت الناس في استيعابها، وفي الإيمان بها الإيمان المطلق، أو إخضاعها لظروف الحياة اليومية، وإيجاد المبررات لهذا التوظيف أو الإخضاع، فمواطن العدل قد ينظر إليها على أنها الظلم بعينه، وكذلك ينظر إلى الظلم عند مسبب آخر على أنه العدالة بعينها، وهذا التقييم ينطبق على كل هذه العناوين العريضة، وتبقى التباينات في التوظيف، وهذا التوظيف خاضع لكل مجتمع على حدة، وفي كل عصر على حدة، فمجتمع غني غنى فاحشا - على سبيل المثال - لا يرى في الفقر تلك المعاناة التي يراها المجتمع الفقير نسبيا، لأن الغنى هنا هو الواجهة العريضة التي تغطي على كل النسب المتفاوتة التي خلفها، ولا يظهر إلا الصورة الاحتفالية التي عليها المجتمع الغني، وربما قد يساء تقييم الفقير هنا؛ على اعتباره جلب الفقر بنفسه، وإلا ما معنى أن يكون فقيرا في مجتمع غني بالمطلق، وهكذا.

من ضمن الأسئلة المطروحة هنا أيضا: ما هي المسافة الفاصلة بين المطلق والنسبي؛ ومن يحدد هذه المسافة؟ وما هو موقع المواءمة بين النسبية والمطلق؟ يذهب الفهم هنا أكثر إلى مستوى الإيمان عند الناس بما هو مطلق، وهل هو مطلق بالفعل، أم أنه خاضع لهذه النسبية، فكثير من المسلمات التي كانت حتى عهد قريب على أنها مطلقة لم تعد كذلك الآن، ولذلك استطاعت المجتمعات الإنسانية الخروج من عنق الزجاجة هذا من خلال استحداث نظم وآليات للحد من مطلقيات الأشياء والرموز، وإخضاعها للتوظيف النسبي، فالنظام الديمقراطي الحقيقي؛ مثالا؛ كسر تابوهات الاستسلام لرمزيات بعينها في المجتمعات الإنسانية، وبالتالي أصبح الطريق مفتوحا لكل أفراد المجتمع للوصول إلى مستوى معين من المساهمة في الأداء الوظيفي الرسمي، ولم يعد الامتداد التقليدي للرموز هو المتاح فقط في هذا الاتجاه، فمن هذا المثال يبدو أن لا مسافة واسعة بين ما هو مطلق، وبين ما هو نسبي، وبالتالي فقد يتحول المطلق إلى نسبي، ويستمر النسبي في طريق تحقيق إنجازات أكثر تتوسع من خلالها النسبية بصورة أكبر، وتأتي بنتائج مكاسبها أكثر للصالح العام، وقد ينظر إلى مجموعة التشريعات، والنظم، والآليات على أنها الممثل الشرعي للمواءمة بين المطلق والنسبي.

يلعب الوعي دورا مهما في مسألة خلخلة وتفكيك العلاقات بين المطلق والنسبي، وهذا ما يخضع للمسألة الزمنية أكثر منها للمكانية، فالمكانية بحكم الموقع حالة متجذرة لها القدرة على الصمود، فجميعنا يعيش في محدد جغرافي معين، ونادرا ما نبحث عن مكان آخر، إلا لظروف قاهرة، وبالتالي فالأمكنة أحد العوامل المؤصلة لمفهوم المطلق، بينما؛ في المقابل؛ يلعب الزمن دورا محوريا مهما في نقل هذا المطلق إلى نسبي، من خلال ما يعرف بـ «التكيف النسبي» وهو ما ساعد المتأخرين على تجسير الهوة بين الواقع «المكان» وبين ما يمكن أن يضاف إلى هذا الواقع لحلحلة الثوابت غير الفاعلة فيه من خلال الزمن الذاهب إلى التجربة والمناقلة بين خطأ وصواب، وإعطاء الفرصة تلو الفرصة، للوصول إلى المستوى المتقدم لحياة الناس، وبالتالي نقل المكان من حالة جامدة «مطلقة» إلى حالة متحركة «نسبية» يلعب الإنسان في نسبيتها بجهده، وتفكيره، ورؤاه دورا مهما يصل به إلى مستوى أفضل من الطموحات وتحقيق الإنجازات، وأقرب مثال إلى هذا سكان الجبال والأودية عندما تحرر البعض منهم؛ وخاصة من الأجيال الحديثة؛ من استحكامات هذه الأمكنة، أصبح لهم موطئ قدم واثق وفاعل، في الأمكنة البديلة التي تشهد حراكا تنمويا فاعلا ومتحركا، فنسبية مقياس الوعي لدى هؤلاء، حررهم من مطب الوقوع في مطلقية المكان، وتأثيراته الجامدة في حركة الحياة لدى أفراد المجتمع الذين يعيشون بين جنباته، إلى اتساع نسبية الحركة والتمدد في أمكنة أخرى أكثر فاعلية في حياة الناس.

نطرح هنا سؤالا ختاميا لهذه المناقشة: هل يمكن النظر إلى مركزية ما، واعتمادها كمرجع أساسي، وإعطائها حكم المطلق؟ أتصور أن الفهم هنا يقتضي النظر إلى أمرين مهمين؛ الأول: أن هناك ثوابت الدين الحقيقي، وثوابت علاقات النسب، وثوابت النظم التي تحفظ للناس كرامتهم، وحياتهم الخاصة، يجب أن ينظر إليها على أنها مراجع أساسية في الحياة، فهذه حسب الفهم (حقائق مطلقة) غير قابلة للقياس، أما الثاني؛ فهو المصنف ضمن الخارج عن هذه المحددات؛ حيث يخضع للمفهوم النسبي الذي يذهب إلى القبول أو الرفض، أو المواءمة بين القبول والرفض حسب الظروف.