1533284_127
1533284_127
الثقافة

لماذا نحب الكتب؟

03 نوفمبر 2020
03 نوفمبر 2020

ميتشيكو كاكوتاني

ترجمة: أحمد شافعي

حكى الكاتب المسرحي أوجست ويلسن الحاصل على جائزة بوليتزر في حديث له أنه في طفولته كان الوحيد في أسرته الذي يريد قراءة جميع ما في البيت من كتب، وكان يبلي بطاقته المكتبية ويستبقي الكتب حتى بعد حلول مواعيد إرجاعها. كان يترك المدرسة الثانوية وهو في الخامسة عشرة، ليقضي كل يوم دراسي في مكتبة كارنيجي ببيتسبرج قارئا في التاريخ والسير والشعر والأنثروبولوجيا، حتى منحته المكتبة في النهاية شهادة ثانوية فخرية. وقال إن الكتب التي اكتشفها هناك "فتحت عالما دخلت إليه ثم لم أغادره بعدها قط" وقادته إلى تحويل مسار حياته إذ أدرك أن بوسعه أن يصبح كاتبا.

أرجع د. أوليفر ساكس الفضل إلى المكتبة العامة المحلية التي عرفها طفلا (في ويلسدن بلندن) باعتبارها المكان الذي حصَّل فيه تعليمه الحقيقي، تماما كما وصف راي برادبيري نفسَه بـ"المتعلم تماما في المكتبة". أما الشهيران بتعليمهما العصامي أبراهام لينكولن وفريدريك دوجلاس فالكتب التي قرآها في نشأتهما هي التي صاغت مُثُلَهما وطموحاتهما الراسخة ويسَّرت لهما أدوات اللغة والحجاج التي ساعدتهما في صياغة تاريخ أمتهما.

كتبت فرجينيا وولف أن متعة القراءة "تبلغ من العظمة أن يقطع المرء بأن العالم لولاها كان ليصبح مكانا شديد الاختلاف والانحطاط عما هو عليه الآن. لقد غيَّرت القراءة العالم ولم تزل ماضية في تغييره". بل لقد ذهبت إلى أن السبب "الذي جعلنا نتطور من القردة إلى البشر، ونرحل عن كهوفنا وننحي أقواسنا وسهامنا ونتحلّق حول النار لنتكلم ونمد يد الدعم للفقراء ويد العون للمرضى ـ السبب الذي جعلنا نتخذ مأوى ونقيم مجتمعا يخرجنا من مجاهل الصحراء وأحراش الأدغال هو ببساطة: أننا أحببنا القراءة".

في كتابه الصادر سنة 1996 بعنوان "تاريخ القراءة" وصف ألبرتو مانجويل ملكا فارسيا من القرن العاشر كان يسافر ومعه كتبه البالغ عددها مائة وسبعة عشر ألف كتاب محمَّلة على ظهور "أربعمائة جمل مدربة على السير بالترتيب الألفبائي". كتب مانجويل أيضا عن القراء الذين كانت تعينهم مصانع السيجار الكوبية في القرن التاسع عشر ليقرأوا على مسامع العمال. وعن والد أحد معلميه في صباه، وكان باحثا يحفظ الكثير من الكلاسيكيات عن ظهر قلب فكان يتطوع للعمل كمكتبة لزملائه المعتقلين في معسكر زاكسنهاوزن النازي. كان بوسعه قراءة مقاطع كاملة من الذاكرة، فهو أشبه بعشاق الكتب في 451 فهرنهايت الذين احتفظوا بالمعرفة حية إذ حفظوا الكتب حفظا.

لماذا نحب الكتب كل هذا الحب؟

تلك الأشياء السحرية الصغيرة المصنوعة بحجم قطع القرميد من ورق وحبر وصمغ وخيط وورق مقوى وقماش أو جلد إنما هي آلات زمنية صغيرة قادرة على إعادتنا إلى الماضي فنتعلم دروس التاريخ، أو الذهاب بنا إلى المستقبل حيث تكون بانتظارنا التصورات الطوباوية. بوسع الكتب أن تنقلنا إلى أماكن بعيدة من الكوكب، بل وإلى كواكب وأكوان أبعد. تمنحنا قصص رجال ونساء لن نقابلهم أبدا وجها لوجه، وتلقي الضوء على اكتشافات العقول العظيمة، وتتيح لنا سبل حكمة الأجيال الغابرة. بوسعها أن تعلمنا عن الفضاء، والفيزياء، والنبات، والكيمياء، وتشرح ديناميكا السفر الفضائي والتغير المناخي، وتعرفنا بمعتقدات وأفكار وآداب مختلفة عن نظائرها لدينا. وبوسعها أن تنقلنا إلى عوالم خيالية كعالم أوز والأرض الوسطى ونارنيا وأرض العجائب والأرض التي صار فيها ماكس ملكا على الأشياء البرية.

*

حينما كنت طفلة، كانت الكتب مهربا وملاذا. كنت ابنة وحيدة، معتادة على قضاء أوقات كثيرة وحدي. قرأت في صندوق الثلاجة الورقي الذي أحاله أبي لأجلي إلى بيت للألعاب بأن فتح فيه بابا وجعل له شبابيك في الأجناب. قرأت تحت البطاطين في الليل مستضيئة بكشاف. قرأت في مكتبة المدرسة في الفسحة عسى أن أتفادى التنمر في الفناء. قرأت في المقعد الخلفي من السيارة مع أن ذلك كان يصيبني بالغثيان. قرأت على مائدة غرفة الطعام، ولما كانت أمي ترى أن القراءة والأكل لا يتسقان فقد كنت أقرأ ما يقع تحت يدي: المكتوب على علبة الحبوب، كتيبات أدلة المستعمل، إعلانات المتاجر، مكونات كعكة قهوة الجوز من سارة لي أو كعكة إنترمات المقرمشة. قرأت وصفة فطيرة التفاح الكذابة على ظهر علبة بسكويت ريتز مرات كثيرة جدا حتى لقد كان بوسعي أن أتلوها غيبا. كان جوعي كله إلى الكلمات.

بدت لي الشخصيات في بعض الروايات حقيقية للغاية وأنا طفلة حتى لقد كنت أخشى أن تثب من الصفحات بالليل إن تركت الكتاب مفتوحا. تخيلت بعض الشخصيات المرعبة من كتب أوز لفرانك باوم ـ القردة المجنحة مثلا أو الملك نوم الشرير أو الساحرة مومبي مالكة مسحوق الحياة ـ تهرب من الكتب وتستعمل غرفة نومي مدخلا لها إلى العالم الحقيقي فتنزل عليه الخراب والدمار.

وقبل عقود من ظاهرة مشاهدة الحلقات المجمعة من مسلسلات "لعبة العروش" و"بريكنج باد" و"آل سوبرانو"، كنت أعمد إلى القراءة المجمعة لألغاز نانسي درو، وروايات الحصان الأسود، وسير لاندمارك، بل وأجزاء كاملة من الموسوعة العالمية للكتاب (التي صقل أبي من خلالها لغته الإنجليزية حينما انتقل من اليابان إلى الولايات المتحدة).

في الثانوية والكلية، كنت أقرأ كتبا مجمعة في الوجودية (الغريب [لكامو]، لا مخرج [لسارتر]، رسائل من تحت الأرض [لدوستويفسكي]، الرجل اللاعقلاني [Irrational Man لوليم باريت]، إما أو [لكيركيجارد]، ميلاد التراجيديا [لنيتشه]) وتاريخ السود (سيرة مالكوم إكس الذاتية، النار في المرة التالية [لجيمس بولدوِن]، مانتشيلد في أرض الميعاد [لكلود براون]، أسود مثلي [لجون هوارد جريفن]، بشرة سوداء وأقنعة بيضاء [لفرانز فانون]) والخيال العلمي وأدب الدستوبيا (1984 ومزرعة الحيوانات [لجورج أوروِل]، كثيب [لفرانك هربرت]، الرجل المرسوم و451 فهرنهايت[لراي برادبيري]، نهاية الطفولة [لآرثر كلارك]، كلوكورك أورنج [لأنطوني بيرجس]، مهد القطة [لكيرت فينجت]). لم تكن قراءتي منهجية على الإطلاق. في ذلك الوقت لم أكن أصلا أعي سر انجذابي إلى تلك الكتب، ولكنني أرى بأثر رجعي ـ وبوصفي من الأطفال القليلين غير البيض في المدرسة ـ أنني لا بد قد كنت مشدودة إلى الكتب التي تتناول الأغراب ممن يحاولون تبين من يكونون وأين هم وإلى أي مكان ينتمون. حتى دوروثي في أوز وأليس في أرض العجائب ولوسي في نارنيا كنَّ ـ حسبما أدركت لاحقا ـ غريبات في أراض غريبة، يحاولن أن يتعلمن كيف يخضن عوالم لا تنطبق فيها إلا قليل من القواعد المعروفة.

في أيام ما قبل الإنترنت تلك، لا أتذكر كيف كنا نسمع عن الكتب الجديدة والكتّاب الجدد ونقرر ما سنقرأه لاحقا. أعتقد أنني سمعت في طفولتي أول ما سمعت عن همنجواي وروبرت بن وورن وجيمس بولدوِن وفيليب روث بسبب مقالات لهم أو عنهم (أو ربما بسبب صور فوتغرافية لهم) في مجلتي لايف ولوك. قرأت الربيع الصامت لراشيل كارسون لأن أمي كانت تقرأه، وشعر إليوت لأن معلمي المفضل في الثانوي مستر أدينولفي جعلنا نحفظ "أغنية العاشق ألفريد بروفروك". كنت من أولئك القراء الذين يخوضون التجارب للمرة الأولى في الكتب، ثم يعرفونها لاحقا في الحياة الحقيقية وليس العكس.

كتب جيمس بولدوِن مرة أن "المرء يقرأ الشيء الذي كان يحسب أنه لم يحدث إلا له، ثم يكتشف أنه حدث قبل مائة سنة لدوستويفسكي. وفي هذا تحرير عظيم لمن يعاني ويكافح، لمن يظن دائما أنه وحده. ومن هنا أهمية الفن".

*

الكتب التي أكتب عنها في هذه الصفحات تتضمن بعض مفضلاتي القديمة "تجعيدة في الزمن" [نشر بالعربية بعنوان "السفر في الزمن"]، موبي ديك، نخلة في نهاية العقل)، وبضعة كتب أقدم تلقي الضوء على أوضاعنا السياسية المأزومة اليوم (أسلوب البارانويا في السياسة الأمريكية، أسس التوتاليتارية، الأوراق الفيدرالية)، وبعض الأعمال الروائية الشهيرة التي بقي لها تأثير أساسي على أجيال متعاقبة من الكتاب (فينسبرج أوهايو، فيما أرقد محتضرة، الأوديسة)، وأعمال صحفية وبحثية تعالج أكثر قضايانا إلحاحا اليوم (الجدار السابق، الفارق السادس، فجر كل شيء جديد)، وأعمال تلقي ضوءا على أماكن خفية في عالمنا أو في العقل الإنساني (أحلام قطبية، فتاة المعمل، الرجل الذي حسب زوجته قبعة)، وكتب كثيرا ما أهديتها لأصدقاء أو أوصيت بقراءتها.

بعض الكلاسيكيات المفضلة لدي موجودة هنا، لكن هناك قوائم كثيرة من الكلاسيكيات لازمة القراءة، ناهيكم عن المناهج الدراسية التي نتذكرها من الدراستين الثانوية والجامعية. وهكذا، حاولت أيضا أن أدرج الكثير من الكتب الحديثة، من روايات وقصص وسير لكتاب معاصرين، وأعمال غير خيالية عن الاضطرابات السياسية والثقافية التي تحدث تغييرات هائلة في عالمنا.

وشأن كل القوائم والأنطولوجيات، الاختيارات هنا ذاتية وعشوائية بلا جدال. فقد كان من الصعب أن أقصر اختياراتي على مائة (ولذلك فإن بعض المقالات يتناول في واقع الأمر أكثر من كتاب واحد)، وكان بوسعي بسهولة أن أضيف مائة كتاب أخرى هي في مثل قوة وتأثير وضرورة الكتب الحالية.

لقد أسعدني الحظ، على مدار السنين، بأن تتلمذت على أيدي معلمين ملهمين أثروا فهمي وتذوقي للكتب. وبعض المحررين الرائعين ـ مثل مدير تحرير نيويورك تايمز السابق آرثر جيلب، الأب الروحي للكثير منا والصحفي البارع سواء في الوسط الثقافي المحلي أو في مشهد الانفرادات العالمية، وهؤلاء المحررون هم الذين هيأوا لي أن أكسب لقمة عيشي على مدار سنين كثيرة من القراءة.

في صفحات هذا الكتاب، أكتب كناقدة أقل مما أكتب كمتحمسة. فلا أحاول الكشف عن معان خبيئة في هذه الكتب أو أعين موضعها في سلسال أدبي، بقدر ما أحاول تشجيعكم على قراءة هذه الكتب أو إعادة قراءتها، لأنها تستحق أكبر جمهور ممكن من القراء. لأنها مؤثرة، أو لأنها ملائمة للحظة، أو لأنها جميلة الكتابة. لأنها تعلمنا شيئا عن العالم، أو عن غيرنا من الناس، أو عن حياتنا العاطفية. أو ببساطة لأنها تذكرنا لماذا وقعنا في غرام القراءة في المقام الأول.

*

اليوم، في عالمنا المعاند والمتشظي، تكتسب القراءة أهمية أكبر مما كانت لها من قبل في أي وقت. لأن الكتب تقدم لنا لونا من الخبرة العميقة تزداد ندرته في عصرنا المشتت ـ سواء أكانت هذه الخبرة انغماسا سحريا في رواية آسرة، أو تفكيرا تأمليا يحفز إليه عمل غير خيالي حكيم ومثير.

الكتب قادرة على أن تفتح نافذة رائعة على التاريخ، قادرة أن تمدنا بمنفذ دائم إلى المعرفة جديدها وقديمها على السواء. ومثلما قال وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس ـ الذي جمع مكتبة من سبعة آلاف كتاب ـ عن سنوات عمله في الجيش "بفضل قراءاتي، لم يدهمني موقف قط فوجدني غير مستعد له، ولم تصادفني مشكلة فحرت ولم أدر كيف عولجت من قبل. لم تقدم لي القراءة جميع الإجابات، لكنها تضيء في الغالب الطريق المعتم أمامي".

وأهم من كل شيء أن الكتب قادرة على إثارة التعاطف ـ وهو شيء يزداد ندرة على ندرة في عالمنا متزايد الاستقطاب والقَبَلية. فالقراءة مثلما كتبت جين رايس "تحيلنا جميعا إلى مهاجرين. تأخذنا جميعا من الوطن، لكن الأهم من ذلك، أنها تجد لنا أوطانا في كل مكان".

والأدب في أفضل حالاته قادر على أن يفاجئنا ويؤثر فينا ويتحدى قناعاتنا ويدفعنا دفعا إلى إعادة النظر في أسسنا. والكتب قادرة على أن تخلصنا من عاداتنا العقلية القديمة وبدلا من عقلية (نحن في مقابل هم) تمنحنا تذوقا للفروق الدقيقة وإدراكا للسياق. والأدب يتحدى العقائد السياسية الجامدة، والعقائد الدينية الجامدة، والتفكير التقليدي (وهذا قطعا ما يدعو الأنظمة الأوتقراطية إلى منع الكتب وإحراقها)، وهو يفعل ما يفعله التعليم والسفر: يعرضنا للعديد من وجهات النظر والعديد من الأصوات.

والأدب مثلما أشار ديفيد فوستر والاس يمنح القارئ "الغارق في جمجمته" عبر الخيال "طريقا إلى ذوات أخرى".

والكتب ـ مثلما قال الرئيس باراك أوباما في أسبوعه الأخير بالبيت الأبيض ـ قادرة على أن تمدنا بمنظور تاريخي، وإحساس بالتضامن مع الآخرين، و"قدرة على أن نضع أنفسنا في موضع سوانا". قادرة أن تذكرنا بـ"الحقائق الكامنة تحت أسطح ما نتجادل عليه كل يوم" وبقدرة "القصص على أن توحد، بدلا من أن تفرق، وتشرك بدلا من أن تهمش".

في عالم تمزقه الانقسامات، بوسع الأدب أن يربط بين الناس عبر المناطق الزمنية والرموز البريدية، عبر الثقافات والأديان، عبر الحدود الوطنية والحقب التاريخية. بوسعه أن يتيح لنا فهم حيوات شديدة الاختلاف عن حياتنا، وإحساسا بالمباهج المشتركة، والخسائر المشتركة، في التجربة الإنسانية.

• المقال هو مقدمة كتاب "100 كتاب للقراءة وإعادة القراءة" لميتشيكو كاكوتاني الصادر في 2020 عن كلاركسن بوتر التابعة راندم هاوس.