abdulalrzaq
abdulalrzaq
أعمدة

هوامش .. ومتون: علامة في طريق المحبة

21 أكتوبر 2020
21 أكتوبر 2020

عبدالرزاق الربيعي -

«لو كُتبت عنّي كلمة، وأنا حيّ أفضل لي من أن تكتب عني الصحف بعد أن أموت»

هذه العبارة لفولتير، نقلها لي الراحل الدكتور موسى بن جعفر الذي غادر عالمنا عن (70) عامًا، حين زرته قبل أكثر من عشر سنوات، في مكتبه بباريس، وجاءت ردًّا عن سؤالي له عن شعوره، وهو يحصل على وسام الاستحقاق الفرنسي في الفنون، والآداب من رتبة كمندور (قائد) 2008م، مؤكّدًا سعادته بتكريمه حيًّا، ولعلّ فولتير أراد بعبارته التذكير بأنّ الناس اعتادوا الاحتفاء بالأموات أكثر من الأحياء، لأسباب يطول شرحها، ربّما من بينها أنّ الإنسان عند انطفاء شعلة الحياة بجسده، يتوقّف عن منافسة أحد!، وبمرارة يكتب الدكتور جاسم محمد جاسم العجة على لسان شاعر عاش منسيًّا، وكثرت المراثي التي قيلت بعد رحيله:

واستكثرتْ كفُّ الحياة علَيّ ما

أورثتُ من جيب الحياة الخالي

حيّاً رُجِمتُ، وحين متُّ مشرّدًا

قرأوا مراثيهم على تمثالي

حين وصلني خبر رحيل الدكتور موسى تذكّرت ذلك اللقاء، وتلك العبارة التي جرت على لسان رجل تشبّع بالثقافة الفرنسيّة، لكونه أمضى سنوات طويلة في الدراسة، والعمل بفرنسا، حتّى صار من الشخصيّات العمانيّة، والعربيّة المعروفة هناك، وعلى امتداد تلك الرحلة، سلك طريق المحبّة، والحوار، كما يشير عنوان كتابه «الحوار: طريق إلى المحبة» الصادر باللغتين العربية، والإنجليزية، وبه وجّه دعوة صريحة للحوار، في عالم يسوده العنف، والصراعات، والتناحرات، وحين تصفّحت كتابه وجدته يضمّ مختارات من كلمات قدّمها خلال فترة رئاسته الدورة الثالثة والثلاثين للمؤتمر العام لمنظمة اليونسكو، وكوّن له عمله كمندوب للسلطنة في المنظمة حضورًا تجاوز الإطار المحلي، والعربي، حتى وصل الدولي، ولعل أبرز الأحداث المفصلية التي وضعته في الواجهة الدوليّة، عندما رشح نفسه لرئاسة المنظمة في الانتخابات التي أجرتها، لكنّه انسحب قبل الانتخابات لصالح المرشح المصري فاروق حسني، الذي لم يوفّق، وخسر المنصب لصالح البلغارية إيرينا بوكوفا بفارق 4 أصوات في جولة التصويت الحاسمة التي جرت في 22 سبتمبر 2009 بعد أن تساوى معها في الجولة التي سبقتها، لتتضح خيوط اللعبة الكبرى «للسيطرة على العالم، بالتخطيط الممنهج من خلال مؤسسات دولية» كما قال حسني.

وفي خضمّ هذه الصراعات، التي تحصل من فوق الطاولة، أحيانًا، ومن تحتها في أحايين كثيرة، ووسط الكواسر، ظلّ الدكتور موسى بن جعفر حملًا وديعًا، يتعاطى مع الأزمات بسجيّته العمانيّة، وحنكته الدبلوماسيّة، ففي ذلك اللقاء الذي تمّ في باريس، حدّثني بمرارة عن خسارة العرب الداعمين الأقوياء للمنظمة، لكن حظوظهما في مثل هذه التصويتات غالبًا ما تكون قليلةً، بسبب اللوبيات، وفقدان لغة الحوار، والتسامح، بما ينسف عبارة منقوشة بعشر لغات، بمبنى المنظمة الكائن في ساحة فونتونوا بقلب باريس، تقول: «لما كانت الحروب تتولّد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام»، ثمّ قام من مكانه، ليخرج كتابه «الحوار: طريق إلى المحبّة» وبه يدعو «للالتزام بحوار مفتوح، وصريح ودعم التوافق عبر التربية والثقافة كأدوات لتعزيز التقدّم البشري، وجعل العالم أفضل» كما قال: وحين تصفّحت سيرته، قرأت عن مشوار حياته الذي بدأ من المدرسة السعيدية، حتّى التحاقه بالسوربون، وحصوله على الدكتوراه، وعيّن عام 1984 مندوبًا دائمًا للسلطنة لدى اليونسكو، ومنحه عام 1991 لقب سفير لدى اليونسكو، وبقي في منصبه حتى عام 2009، ثم عمل مستشارًا للسلطنة في المنظّمة، وإضافة إلى كتابه المذكور، له كتاب آخر عنوانه «تطور القانون الإداري العماني» والراحل من روّاد الحركة المسرحيّة العمانيّة، وقد حدّثتني الفنّانة فخريّة خميس، شافاها الله، وعافاها، عن جهوده الرياديّة في المسرح العماني، على خشبة مسرح النادي الأهلي مطلع السبعينيّات، فقد مثّل، وأخرج العديد من المسرحيات في مسقط، ودبي، وأبوظبي، وبيروت، وكتب للمسرح أيضا، كــ:عودة شنجوب وين زمانك يا بحر، من الحياة، وسكيتشات الدراويش الغنائية.

رحلة طويلة، وجهود قدّمها الدكتورة موسى جعفر الذي التقيت به أكثر من مرّة في باريس، بينما لم ألتق به في مسقط سوى مرّة واحدة في مناسبة سعيدة دعاني إليها، مع مجموعة من الأصدقاء، ولم يدر بخلدنا أن ذلك اللقاء هو الأخير، ليودّعنا، فيما تبقى كلماته تواصل مسيرته التي جعلت منه علامة في طريق المحبة.