Ahmed
Ahmed
أعمدة

نوافذ: العائد أم التضحية

20 أكتوبر 2020
20 أكتوبر 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يعمل الجميع على تعظيم العائد، بغض النظر عن مستوى التضحية، وهذه ليست إشكالية موضوعية في العلاقة بين الأداء والعائد في أي مشروع ينظر إليه على أنه عمل، أو وظيفة، وإلى هذا الحد؛ فالمسألة مقبولة بامتياز، ولا نقاش مختلف على هذه الصورة المتبادلة بين العائد والتضحية، فإذا تم التسليم على أن الوظيفة تتطلب التضحية (بالوقت، بالجهد، بالراحة، تكلفة الفرصة البديلة) فإن ذلك كله يقابله عائد (مادي، معنوي، وجاهي، سلطة نافذة) إذن هناك نوع من التوازن بين الطرفين: طرف يمثله جهد مبذول يحتاج إلى مقابل ويمثله الـ»موظف»، وطرف إنجاز متحقق وتمثله الـ «وظيفة أو مؤسسة» وكلا الطرفين يضمهما وطن كبير، وهذا الوطن الكبير ينظر إلى التضحية أكثر من أنه ينظر إلى العائد المادي الذي يحرص عليه الفرد، فـ»للأوطان دين مستحق».

ربما تأتي الإشكالية هنا أكثر عندما تسخر هذه التضحية لمحدودية العائد؛ التي من المفترض أن لا تخضع لاختيارات الربح والخسارة، بقدر ما تكون المحفز الحاث على بذل الجهد، أكثر منه النظر إلى العائد، ولأجل ذلك تحدث مجموعة الاختلالات في هذه العلاقة، والتي تؤدي بدورها إلى ارتكاب جرائم السرقة، وخيانة الأمانة، والتربح على حساب المبادئ والقيم، والتنظير المبالغ فيه لمسألة الوطنية، واللف والدوران على تخوين الأفراد، وغيرها من الممارسات التي «تحوم حول الحمى».

من القناعات الأكيدة التي يعرفها الجميع، أن من يعمل يريد أن يقبض مقابل هذا العمل، ولأن الصورة هكذا في حقيقتها، فلا يستدعي الأمر؛ أن تروج شعارات الوطنية لغرض استجلاب أكثر، ومكاسب أعمق، فهذه أمور لم تعد خافية، ويعرفها الصغير قبل الكبير، والتعويل على أن هناك من يكسب دون أن يعمل، فهذه مسألة عائمة وتحتاج إلى دليل، وبالتالي فإلقاء التهم؛ هكذا على عوائنها؛ ليس من صفات العقلاء.

الخوف الآن ليس على ما مضى، ولكن أن تتأسس ثقافة «المقابل بلا تضحية» وهي ثقافة تتشكل في نفسية الكثير من الشباب اليوم، ومن هم في خضم طاقة العمل الحقيقية، وإن وصف - مجازا - جيل فترة (السبعينيات - الثمانينيات - التسعينيات) بأنه أكثر تضحية، فإن هذا الوصف هو نوع من براءة الذمة غير الرسمية، وهي مسألة نسبية إلى حد كبير، وجميعنا؛ بلا شك؛ يرى في الجيل الحالي الذي يتقلد الوظيفة والمسؤولية، أنه يعي تماما أنه أمام مسؤولية تاريخية في حق الوطن، وأنه لن يفرط بهذه المسؤولية مقابل العائد فقط، وحالات الاستثناء من هذه القاعدة، هي حاصلة كما كانت في الماضي.

تصدمني؛ أحيانا بعض الكتابات التي يكرس من خلالها أصحابها مسألة «تخوين مسؤول» وغالبا ما يكون الخطاب مهلهلا، وعاما، وشاملا دون استثناء لأحد، وكأن الجميع أصبحوا لصوصا، بعد أن كانوا أصدقاء يؤخذوا بـ «الأحضان» وأرى أن هذا النوع من الكتابات تفتقر إلى أقل الشروط من أدب الحوار، وفيها مغالطات جوهرية في مسألة العلاقة بين العائد والتضحية، ولو سئل هؤلاء الذين يكتبون أنفسهم هل ما هو متحقق عندهم من عائد، يقابله تضحية حتى تحقق ما تحقق عندهم اليوم؟ أم أن المسألة محاولة لاستدرار عواطف العامة المشحونين أصلا بمجموعة من الاحتقانات التي سببتها مجموعة من الظروف المتكالبة في آن واحد؟ لقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي اليوم على عرض الـ «خبيث» بكل سهولة ويسر أكثر من الـ «طيب» ودون أدنى تأنيب من ضمير يستقصي آخر من تبقى من أدب الحوار، وأدب العلاقة بالآخر، سواء هذا الآخر قريب أو بعيد، كبير أو صغير، وهذه الصورة الممارسة بهذه الطريقة لا تعبر إلا عن قمة في الجهل، ما كان يجب أن تكون في ظل بيئة معرفية ضخمة، وفي ظل عائد سلوكي وأخلاقي، لا يزال ينظر إليه على أنه المنظم لسلوكيات الناس، في تعاملاتهم مع بعضهم البعض.