أفكار وآراء

الاستلاب الحضاري في الثقافة العمانية

04 أكتوبر 2020
04 أكتوبر 2020

خميس بن راشد العدوي -

الاستلاب.. من الجذر «سَلَب»؛ وله معانٍ عديدة في اللغة العربية، ما يهمنا هنا هو أن معنى «الاستلاب: الاختلاس» كما ورد في «لسان العرب»، وهو سلب الشيء من صاحبه على حين غفلة. وأما على مستوى المصطلح.. فقد تطور في الثقافة الغربية بدايةً من المفهوم القانوني إلى المفهوم السياسي، مرورا بالمفاهيم الفلسفية. ولم يحظ في الثقافة العربية ما حظي به في الثقافة الغربية من تطور دلالي، ويكاد يقتصر على دلالة واحدة؛ هي الانسلاخ من الثقافة الإسلامية والعربية وتبني الثقافة الغربية.

وهنا لا يهمنا الجدل الدائر حول مفاهيم الاستلاب بين الثقافتين الغربية والعربية، وإنما أتيت بهذا الملمح لألج منه إلى «الاستلاب الحضاري في الثقافة العمانية». ومن أراد الاستزادة في دلالات المصطلح وتطوره المفهومي فليرجع إلى مقال «في دلالة مفهوم الاستلاب» للطيّب بوعزة، المنشور في موقع الجزيرة قسم المقالات.

أقصد بالاستلاب الحضاري في الثقافة العمانية.. الحالة المعرفية التي بُني عليها تصور الذهن العماني، الذي يُرجع كثيراً من المنجز الحضاري العماني لفاعلين غير عمانيين، دون أن ينتبه لذلك، وهي حالة أسقطها التصور الثقافي على أزمنة عمانية عديدة؛ قديمة وحديثة، ولم يكن ذلك مجرد تصور ذهني اجتماعي، بل هو موغل بعمق في المعرفة الثقافية، وقد تكون هي الأصل الذي أوحى للذهن الاجتماعي به، وهذا يجعل أمام المفكر العماني حاجزاً صلداً عليه أن ينقضه من أساسه، وقد يقضي سنوات في قضية واحدة، فما بالكم بسائر القضايا. أهمية الوقوف على هذه المشكلة؛ أولاً لمعرفة طبيعة هذا الاستلاب، ثم محاولة استكناه أسبابه، والعمل على علاجه. ومعرفة طبيعة الاستلاب يفيدنا في معرفة ذهنية العماني، وليس لمحاولة العلاج فقط. طبعاً.. هذا المقال لا يمكنه أن يعالج المشكلة كلها، وإنما حسبه أن يكشف عن وجودها، ويلقي الضوء على أهم ملامحها.

إن ظاهرة الاستلاب الحضاري لم تقتصر على الجانب النظري؛ بل نلمحها في الذهنية الجمعية التي يتعامل بها العماني مع نفسه والآخر، فكثيرا ما نجد النقد السلبي للذات العمانية إلى حد «جلد الذات». وقد يمارس العماني مع هذه الحالة نقيضها، والعجيب أنه لا يشعر بذلك، فهو من جهة يستنقص ما تقوم به مؤسساته -مثلاً- إلى درجة يكاد يقول بأنها لا تقوم بشيء تُحمد عليه، وفي الوقت نفسه يتغنى بوطنيته وعمانيته إلى درجة أنك لا تستطيع أن تصفها إلا بالمشاعر المفرطة.

امتداداً لذلك.. فالعماني قد يشعر بحساسية كبيرة عندما يُوجَّه النقد لبلده وحضارته ورموزه التاريخية، لكنه يعزو العناصر الحضارية لبلاده لفاعل أجنبي.

إن هذه الظاهرة تحتاج إلى فهم وتحليل، وفهمها قد يحررنا من ثقتنا المطلقة بالأجنبي، سواء بالنسبة للبضاعة التي نستوردها في مقابل المنتَج العماني، أو إسداء المشاريع والأعمال الكبرى لغير العمانيين، وغيرها من القضايا.

هناك العديد من العناصر الثقافية التي يمكن أن تُعالج في ظاهرة الاستلاب الحضاري، وإنما أكتفي هنا بذكر بعضها.

كل مجتمع.. لاسيما المجتمع الذي تشكّل عمقُه الحضاري عبر الأزمنة السحيقة؛ له أصوله النابعة من أرضه، والمجتمع العماني له عمقه الحضاري الذي لا يُنكر، ولكن حتى الآن لم يُكشف عن أصوله، فكثير من الدراسات عن أصول الحضارة العمانية مجتزأة وتُرجِع عناصرها الثقافية لأمم أخرى، فمنها ما ينسب للحضارة الفينيقية، وآخر للحضارة الأكادية، وثالث للحضارة الساسانية، وهلم جرّا، وكأن هذه الأرض عقمت أن تلد حضارتها.

حتى إنسان هذه الأرض ضننا عليه أن ننسبه إليها، فاستُلِبنا فيه حضارياً؛ عندما قسّمنا الشعب إلى يمانيين عرب الجنوب ونزاريين عرب الشمال، وهذا تقسيم موغل في معرفتنا الثقافية، مع أن هجرات هذه القبائل إلى عمان -مع حاجتها لمراجعة تأريخية- مبتدأها يحوم حول رأس التقويم الميلادي، ولكن ما شأن الإنسان الذي استوطن عمان منذ آلاف السنين قبل الميلاد؟ وأين هو الآن؟ ألا يشعرنا هذا الاستلاب بشرخ عميق في دماغ حضارتنا؟.

ثم تأتي شخصية مالك بن فهم الأزدي كشخصية وافدة إلى عمان، لتؤسس معرفياً لثقافة مؤثرة على مجريات التاريخ العماني؛ سياسةً واجتماعاً، حتى يومنا هذا، بيد أن هذه الشخصية لم تُدرس موضوعياً على المستوى العلمي لمجريات التاريخ العربي العام، ولا مجريات التاريخ العماني الخاص، وكل ما هنالك هو الاعتماد على روايات كلاسيكية. وبدلاً من أن نخضعها للمناهج التاريخية الحديثة، وما شهدته من تطور موضوعي، إذا بنا نتجافى عن الاحتكام إلى هذه المناهج، بل أخضعناها هي للروايات الكلاسيكية. ولكن إذ قبلناها فعلى أقل تقدير علينا أن نغربل أحداث هذه الشخصية من اللامعقول. فنحن مستلبون ليس في تصورنا لأحداث التأريخ فحسب، وإنما لأساطيره أيضاً.

وبذكر الأساطير.. فالأسطورة مكوِّن مهم في حضارة الشعوب، فلكل شعب أساطيره كبداية الخلق، أو مركزية وطنه بالنسبة للأوطان الأخرى. أما نحن في حقل الأسطورة فمستلبون حضارياً، ولم نكتف -مثلاً- بأن ننسب الأفلاج إلى إبداع غير عماني، بل نسبناها لجن وافدين مع النبي سليمان إلى عمان، فشقوا في أرضها عشرة آلاف فلج في عشرة أيام.

وعندما رددنا إنشاء الأفلاج إلى الحدث الطبيعي بأنها من صنع الإنسان نسبناها للفرس، مع أن أفلاجنا متقدمة على أفلاجهم بأكثر من ألف عام، وحتى هذا التصور المُستلَب حضارياً لم يكن من عندنا، وإنما «رمانا» به ولكنسون، وبدلاً من أن يُسمى هذا النوع بـ«الأفلاج العِدّية» حسب الاشتقاق العربي، وتشير إليه بعض وثائق الأفلاج، أسماها ولكنسون بـ«الأفلاج الداودية»، وإذا بنا نعتمد التسمية دون مراجعة. ومع تقديري للجهود العظيمة التي خدم بها التاريخ العماني، إلا أنه لم يوفق في ذلك، وكرّس بهذا في ثقافتنا الاستلاب الحضاري.

قلاعنا الشامخة وحصوننا المهيبة وأسوارنا العتيدة كأفلاجنا الرقراقة استُلب فيها تصورنا الثقافي فنسبنا نشأتها للفرس، ولما عجزنا أن نجد الدليل على ذلك نسبناها لمردة الجن وشعوذة السحر، فنحن على كل حال مستلبون؛ إما للأجنبي أو للجن، وقد يكون الجني أجنبياً. في الحقل الديني.. هناك معتقدات قديمة عندما أطالع ما كتب حولها أجده كغيره يعاني من ظاهرة الاستلاب الحضاري، فمعتقد «طقس حرق الإنسان» بعد وفاته؛ منهم من ينسبه للزرادشتية، على الرغم أنها ظهرت بعد نهاية هذا المعتقد أو قبيل انحساره من عمان، مع وجود تنقيبات آثارية كشفت عن وجوده في الألفية الخامسة قبل الميلاد على أقل تقدير. ومنهم من يزعم بأنها وافدة من الهند، ولا أدري ما هو الدليل؛ إلا إن يكن الاستلاب قد أثّر في معظم عناصرنا الحضارية.

وكذلك.. تصورنا بأن الدين المنتشر قبل الإسلام في عمان هو دين وثني بحت، استناداً لقصة هي الأخرى وافدة؛ قصة إسلام مازن بن غضوبة مع صنمه باجر، والتي لم ترد في المؤلفات العمانية إلا في القرن الخامس الهجري بقلم سلمة بن مسلم العوتبي؛ بحسب اطلاعي، مع أن المتتبع بحثياً لطبيعة الدين القديم في عمان يجده أقرب إلى التوحيد منه إلى الوثنية، ولا أقول هذا عاطفة لديني الإسلامي، بل ذلك ما تشي به بعض الأدلة الآثارية، وهو أمر يحتاج إلى بسط معرفي وبيان منهجي، عسى أن أضعه بين يدي القارئ في المستقبل.

برأيي.. لقد جاء الوقت بأن نعيد النظر في تأريخنا بمنهج موضوعي، مستند إلى البحث والتنقيب، وإلى التفكيك والتحليل، ثم إعادة بنائه بمسار منطقي، عسى أن يخفف من هيمنة ظاهرة الاستلاب الحضاري التي مُنيت بها ثقافتنا العمانية.