أفكار وآراء

وهل لا تزال هناك مجتمعات تقليدية؟

27 سبتمبر 2020
27 سبتمبر 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

«شهدت الرأسمالية الليبرالية مع ظهور الدولة الصناعية تحولا في العلاقات والتفاعلات، وانتقلت من الجماعية التقليدية المشخصنة، إلى علاقات اجتماعية أكثر قانونية وطوعية، ولا شخصية (المجتمع).

يقال: إن الهوية «حمَّالة أوجه» وبناء على هذا القول، يمكن النظر في مسألة الظاهرة الاجتماعية ككل، وإن ظلت الهوية عنوانها الكبير، وهي ظاهرة متعددة، ومتشعبة، وبقدر عموميتها وشموليتها، فهي مغرقة في الخصوصية إلى حد التماهي؛ لأنها قد تختزل إلى حالتها الفردية فقط، وقد ينظر إلى عموميتها كمجتمع، وتقاس مسألتها أيضا بناء على حالة كل مجتمع على حدة، ومن شموليتها أن مجتمعها قد يضم أكثر من مجتمع، حيث تتمايز هذه المجتمعات في صور كثيرة، ومن هنا تأخذ هذه المجتمعات، منفصلة، طابعها الخصوصي جدا، ومن هنا تتاح الفرصة أكثر لتقارب المجتمعات إلى بعضها البعض، وإلى تلاقح المجتمعات من بعضها البعض، وإلى انزواء المجتمعات عن بعضها البعض في بعض التجارب، وبالتالي فـ «حمَّالة الأوجه» هذه تذهب إلى حالة التغيير المستمرة التي تعيشها هذه المجتمعات، وتتعاطى مع واقعها في صورة من التفاعل، والتأثر والتأثير في آن واحد، وبقدر البساطة التي نرسمها هنا في بداية هذه المناقشة، إلا أن المسألة لن تكون مخفية عن مجموعة التعقيدات غير المنكورة في آليات هذا التداخل والتقارب، والتأثير والتأثر، فالمسألة ليست يسيرة بالمطلق، وليست معقدة بالمطلق أيضا، لأن كلا الفاعلين في حالة اليسر والعسر، هو الإنسان، والإنسان، كما نعرفه، حاد الذكاء، وشديد الحساسية، متقلب المزاج، قابل للتفاعل، ومتصلب في مواقفه وقناعاته، ومن هنا يأتي التضاد بين البساطة والتعقيد، والتقبل والرفض.

ولتقريب المعنى أكثر، سنفترض هنا مجموعة من الأسئلة، من بينها: إلى أي حد تستطيع المدن أن تحتوي المجتمعات التقليدية فتفقدها هويتها، في الوقت الذي تتسارع فيه القرى اللحاق بالمدن، ويتسارع فيها الفرد للدخول في معترك التمدن، ولو بمظاهر مادية، وخاصة في الوقت الذي يتراجع فيه كبار السن عن عامل التأثير، والانزواء بعيدا «العزلة» ويتقدم فيه صغار السن إلى عالم التأثر؟

من هنا يمكن النظر إلى المسألة من جانبين، وهو ما يعزز المفهوم النمطي المتداول «صراع الأجيال» فحسب المعايشة أن هذا الصراع قائم، وسيظل كذلك، لأن كل جيل يدافع عن منجزاته، وما دام الأمر كذلك، فالجيل اللاحق هو الذي يوصف الجيل السابق بـ «التقليدي» حتى لو حاول الجيل اللاحق أن يقرّب الفجوة بنيه وبين الجيل الثاني، فستظل نظرة التقليدية تلاحق الجيل الأول بناء على عدم قدرته على اللحاق بما ينجزه الجيل الثاني، وبالتالي فهذه إشكالية موضوعية، ولا يمكن النفاذ منها، أو تهميشها، ويأتي المنجز الحياتي اليومي ليعمق من الهوة بين الجيلين، وكلما قطعت الإنسانية إنجازا مقدرا على الواقع كلما تعذر ردم هذه الهوة أو التجسير بينهما إلى الحد المعقول، وبالتالي حتى لو تقاربت الأمكنة بمسميات المدينة أو القرية في مظاهر الحياة المختلفة ستظل العقدة الذهنية قائمة بين الأجيال، وسيظل تكريس النظرة إلى أن هذا فرد من المجتمع التقليدي «القرية» وهذه فرد من المجتمع المدني «المدينة» مع أن الجميع أصبح يستخدم نفس الأدوات، وينتقل ويتواصل بنفس الوسائل، إلا أن المخزون الفكري ظل كما هو لم يتغير، وإن تفاءل البعض بقدرة الأيام لمراجعته، وأحداث الواقع بإرباكه، وتجدد القناعات بحلحلته، إلا ذلك سيبقى تنظيرا لا أكثر، لأن كل جيل يتكور على منجزه.

والسؤال الآخر الذي يمكن طرحه أيضا: لماذا لم تستطع المدن الكبرى التخلص من أفراد المجتمع التقليدي، وظلت هذه التقليدية حاضرة في كل ممارسات هذا الفرد، حيث لم يستسلم لمارد المدينة، فلا الهالة الضخمة التي تفرزها المدن استطاعت أن تربك حسابات الفرد، وقناعاته، وقيمه، مبادئه، ليتحول سريعا إلى مجموعة من المنصات التي تزهو بها المدن، حيث بقي على توجسه، وانكفائه، وحساسيته المفرطة، وبذلك ظلت مجموعة الـ «كانتونات» المحددة للمجتمع التقليدي حاضرة في كل مدن العالم بلا استثناء، ومسألة تذويب هذه الفروقات ليست يسيرة، وتحتاج إلى أجيال متعاقبة، حتى تتم عملية التأثير والتأثر، مع ضبابية الجزم بزوالها، ولذلك لا تستغرب إن زرت أحدى مدن العالم الكبرى، أن تجد مجموعات من السكان- وخاصة من المهاجرين- متكورة على بعضها البعض، بخصوصياتها التقليدية من العادات والقيم، والممارسات الحياتية المختلفة، وبذلك عززت النظرة أن لا مجال من اختفاء المجتمعات التقليدية إلى الأبد، ولو احتضنتها أكبر مدن العالم تقدما، وتحضرا ودهشة، وانفعالية، وتحفزا.

ينظر إلى تحرر الفرد من علائقه الوشائجية لجماعته على أنها السبيل للتحرر من التزامات الجماعة، وبالتالي متى بقي الفرد في جماعته الأم، لا يمكن، في المقابل، أن يتبنى أفكارا، ورؤى تتصادم والثوابت التي عليها جماعتها الأصل، ولذلك، وحتى، يتبنى الفرد أسلوبا مغايرا لحياته، كنقلها من مستواها الأدنى البسيط «قاعدة الهرم» إلى مستويات معقدة في أعلى الهرم الاجتماعي، لا بد حينها من التحرر من الكثير من الارتباطات، والالتزامات التي تقيده بجماعته الأصل، ومع ذلك فمن يحاول يفشل، وبالتالي فعليه إحدى الطريقتين: فإما أن يتخذ قرار النأي بعيدا، هو أقرب إلى الهجرة منه إلى السفر، وإما أن يستسلم استسلاما مطلقا لكل ما يكون عليه المجتمع الذي يعيش فيه، فيتعايش معه، وهذا الاستسلام المطلق يكون أهون على الفرد عندما يكون في بيئته الأصل، حيث لا تزال الجذور ترسخ فيه قيمة البقاء والاستمرار، أما عندما يكون في بيئته البديلة، فإن ذلك ليس يسيرا عليه بالمطلق، وبالتالي لا يستبعد أن يعود سريعا إلى حيث المنشأ مع أقرب رحلة عائدة إلى بلده، حتى ولو قضى عقودا من الزمن في الوطن البديل.

تسعى الأنظمة السياسية إلى تمدين أفراد المجتمع عبر وسائل كثيرة في مقدمتها تأصيل المعارف والعلوم، واستحداث الأنظمة والقوانين، وتفعيل أكبر لدور المؤسسات، وفصل السلطات، وتعريف أكثر وضوحا لمجموعات الـ «تماس» للمفاهيم المحددة لمكونات المجتمع للحقوق والواجبات، كالمرأة، والديانات، والمذاهب، والأعراق، والطبقات، بحيث لا تترك فيما بينها فراغات قابلة للتأويل، والتفسير والممارسات التقليدية الخاطئة، بناء على الموروث، وتفعيل أكبر لأدوار وسائل الإعلام المختلفة، للاعتقاد الجازم أن الدولة المدنية أكثرا ثراء في العمل التنموي، وأكثر قدرة على استيعاب مستجدات الحياة اليومية، وبالتالي نقل الأفراد «فكريا» من مجتمعاتهم التقليدية إلى استحقاقات المجتمعات الحديثة، لأن الفرد الـ «مدني» يظل أكثر حضورا، ومساهمة في مجتمعه، حيث يتحرر من حالة الأسر الخاصة التي تكبله عن المساهمة المجتمعية النشطة.

يقول الدكتور عبدالغني عماد، في كتابه (سوسيولوجيا الهوية –جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء)، ما نصه: «شهدت مع ظهور الدولة الصناعية الرأسمالية الليبرالية تحولا في العلاقات والتفاعلات، وانتقلت من الجماعية التقليدية المشخصنة، إلى علاقات اجتماعية أكثر قانونية وطوعية، ولا شخصية (المجتمع). وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين ازداد زخم التصور القائل إن (الجماعة) بدأت تفقد بريقها جراء الإفراط في إعطاء قيمة للانجازات الفردية والتنافس وتحقيق الذات، على حساب المصلحة العامة، والتعاون والهوية المدنية»- انتهى النص- وعند قياس هذه الرؤية التي يُقيّم من خلالها الدكتور عبد الغني قوة الدولة الصناعية في نقل أفراد المجتمع من حالة التموضع التقليدية إلى حالة المساهمة الفعالة من خلال الرأس مال البشري، يرى المتابع أنه حتى هذه القوة الهائلة التي تمثلها الدولة الصناعية لم تستطع أن تخترق مجموعة السياجات والتجاذبات التي تحيط بالفرد في بيئته الاجتماعية الموسومة بـ «التقليدية» وفي ظل هذا الواقع ظل المنجز ماديا فقط، وحافظ المخزون المعرفي المنسل منذ ذلك الزمن البعيد حاضرا وبقوة في كثير من مناخات الحياة اليومية لدى الفرد، والشواهد على ذلك كثيرة، إلا الاستثناء، وعلى ما يبدو أنه ليس يسيرا أن يحدث تصدع ما، في فترات زمنية قصيرة، فالمسألة مرتبطة بتراكم زمني طويل.