1515146
1515146
الثقافة

مكتبات مفقودة

26 سبتمبر 2020
26 سبتمبر 2020

روزا ليستر -

ترجمة : أحمد شافعي -

كنت طالبة في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة كيب تاون حينما اشترى «مركز رانسم» أوراق جيه إم كوتزي. حدث هذا عام 2012 حين كانت الدراسة في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة كيب تاون تقتضي من الطالب أن يكون صاحب رأي واضح قوي راسخ في جيه إم كوتزي وحياته وأعماله وموقعه داخل الوسط الأكاديمي في جنوب أفريقا وما إذا كان ثمة «تناقض فاتن» بين هذا الموقع والموقع الذي يحتله دوليا. كما أنك تحصل على نقاط إضافية إن أمكنك أن تنتهي من هذا كله وأنت تشير إليه ولو مرة على أقل تقدير بوصفه «جون ماكسويل كوتزي» بنبرة صوت ضجرة ساخرة. والحقيقة أنني لم أصل قط إلى السبب الجذري الذي يجعل الناس يحبون كثيرا قولهم «جون ماكسويل كوتزي» ثم يتلفتون حولهم متباهين، وفي بعض الأحيان منتفشي الأنوف قليلا. كنت قد تخفَّفت من ذلك الالتزام بامتلاك رأي في كوتزي، وذلك بأن كان لي رأي واضح في نادين جورديمر بدلا منه، وبذلك لم أعرف قط ما اللذيذ في الإشارة إليه بغير الأحرف الأولى من اسمه.

تعلمت أن أبتسم ابتسامة العليم كلما حدث ذلك، أي كثيرا للغاية. مع عدم الابتسام بشأن موضوع شراء مركز رانسم للأوراق، فذلك موضوع كانت تجري مناقشته بمرارة، حتى لقد ظننت لفترة أن «مركز رانسم» اسم اصطلح عليه القسم للضراوة الأمريكية، أي أنه شيء يتعلق بمؤسسات الولايات المتحدة الثرية التي تخطف بقية العالم ولا تفرج عنه إلا بفدية - وكلمة رانسم ransom تعني فدية -، وتعتدي على التركات وتخطف قطعا من تاريخ لا حق لهم فيه. ومركز هاري رانسم بالطبع مكان حقيقي، يقع في حرم جامعة تكساس، ويحوي واحدا من أشمل المجموعات الأرشيفية في العالم. ففيه مليون كتاب، و5 ملايين صورة، ومائة ألف عمل فني، و42 مليون مخطوطة أدبية. حتى أن نماذج المجموعات ـ بحسب موقع الإنترنت الودود الخاص بالمركز ـ تحتوي نسخة كاملة من إنجيل جوتنبرج، والطبعة الأولى من أعمال شكسبير، ومجموعات مخطوطات كابوتي وكارينتن، وكوتزي، وكولريدج وكونراد وكرين وكراولي وكمنجز وكاسك، وهذا فقط بالنظر إلى الكتَّاب الواردين في حرف الـC. مكتبة جيمس جويس الشخصية منذ أن كان يعيش في تريستي موجودة هناك، وكذلك المكتبات الشخصية لصمويل تيلور كولردج ودون ديليلو وإيفلين واو.

قالت لي صديقة ذهبت إلى جامعة تكساس إن مركز رانسم مبنى عادي المنظر، ضخم وبني، وإنه يسهل المرور به دون إدراك لما فيه. وقالت إن ذلك ما يفعله الطلبة كل يوم. تأكدت من الوصف بالنظر إلى الصور المتاحة على الإنترنت، ولكن ذلك لم يبد لي ملائما على المستوى الرمزي. ينبغي أن يكون أكبر بلا شك، أقرب إلى مجمع أو إلى حصن. يجب أن ينبعث منه صوت طنين واطئ، أو وهج. إنها اثنتان وأربعون مليون مخطوطة. ومليون كتاب. إنها كيلومترات من المقتنيات الأرشيفية في غرف محكومة المناخ، كلها مغلفة في حزم وعلب ورقية معدة للحفظ، تلقى عناية ومحبة من جيوش من طلبة الدراسات العليا الذين يحصلون على أجور جيدة. كانت تلك الصديقة نفسها تقوم ببعض العمل في الأرشيف حينما تلقوا مخطوطات نورمان ميلر. وتعالت أصوات بهجة هائلة في المركز حسبما قالت. وبدأ أسبوع من الاحتفالات التي بلغت ذروتها بحفلة حصل فيها جميع الحاضرين على سلاسل مفاتيح على هيئة قفازات ملاكمة.

لم أكن أعرف ذلك كله آنذاك، كل ما كنت أعرفه أن لدى المركز الكثير من المال، وأن الناس في قسمي قالوا إنه عمليا انتزع أوراق كوتزي من بين أيدي باحثي جنوب أفريقيا إلى الأبد. فكيب تاون قد تكون بعيدة عن كثير من الأماكن، لكنها شديدة البعد عن تكساس. وحتى لو حصل امرؤ على تمويل، فمَن ذا الذي تتوافر له الموارد أو الوقت لطلب استخراج تأشيرة (وهي مكلفة وتستغرق دهورا)، والسفر إلى تكساس، ثم الجلوس في غرف المطالعة في المركز لشهور، مستعرضا الدفاتر ملولبة الكعوب التي كتبت فيها أولى مسودات رواية «في انتظار البرابرة»؟ تعاطفت، لكن ليس كثيرا. في حدود معلوماتي كانت أغلبية أوراق جورديمر في مكتبة ليلي بإنديانا منذ عام 1993. فهي الأخرى شديدة البعد، وأيضا تستوجب استمارات منح للسفر إلى هناك وقضاء أيام كثيرة، ولعل غرفة المطالعة ليست أيضا في غاية الجمال. ولقد تقبلت منذ عهد بعيد أنني لست بالشخص الذي يتغلب على كل تلك الصعاب، وبدا لي أن قوم كوتزي ينبغي أن ينظروا إلى مشكلتهم بالطريقة نفسها. فقد لا يلمسون أبدا المخطوطات بأيديهم، لكن غيرهم سوف يفعل هذا، ومن المؤكد أن اليقين بوجود من يعتني بها جيدا أمر لطيف. لقد اشترى المركز قبل سنتين أرشيف ديفيد فوستر والاس الذي ضم من مكتبته قرابة مائتي كتاب تحتوي هوامشها على ملاحظات دوَّنها والاس. وتردّدت بالفعل قصص عن طلبة يذهبون إلى تكساس لا لهدف إلا الجلوس للحديث إلى المكتبة، باكين على نسخته من «ضوضاء بيضاء»[لدون ديليلو]، لامسين صفحات كتب بعينها مرارا وتكرارا إلى أن لانت واهترأت وتحتّم رفعها من التداول العام، وإحلال نسخ رقمية بدلا من أصولها. وعن نفسي لا أتخيل أن أركب طائرة لمجرد أن ألمس كتابا، وإن راقت لي فكرة قيام بعض الناس بذلك ووجود مؤسسات وأموال وإرادة لتيسير سلوك من هذا النوع.

ولعلي أيضا استطعت أن أتبنى هذه النظرة الطيبة للأمور لأن الوثائق التي احتجت إليها في بحثي كانت تقع في مبنى يبعد عشر دقائق مشيا عن باب بيتي في أرشيف غرب كيب تاون المحلي بشارع رولاند. كنت أكتب بحثي عن الرقابة الأدبية في زمن الأبارتيد، مع التركيز على تعامل الدولة مع روايات نادين جورديمر. ست من رواياتها مرت بهذا النظام. ثلاث منعت وثلاث لم تمنع. وما من منطق أمكن تمييزه وراء أي من القرارين. تقريبا لم تكن هيئة التحكم في المنشورات تتعرض للمساءلة في أي شيء، فقد كانت لدى الرقباء حرية استثنائية في حظر ما يروق لهم حظره. وما كانوا يفعلونه غالبا بتلك الحرية هو أنهم كانوا يكتبون دفاعات مطولة واستطرادية عن قراراتهم.

فتنتني تلك التقارير وأثارت اشمئزازي، بما تمثل فيها من حقد وغباء وهدر فكري. كنت أذهب إلى الأرشيف لأصطاد مجموعة معينة من الوثائق، لنقل إنها مثلا الملفات المتعلقة بالقضية المرفوعة ضد حظر رواية «ابنة بيرجر» فأنتهي عالقة هناك ليوم كامل، ثم لأسبوع، في قراءة مستلبة لكومة ترتفع إلى مستوى الركبة من الملفات المتعلقة بآراء الرقيب في «نار شاحبة» - لنابوكوف - أو خبيئة رسائل من الجمهور تطالب الرقباء بعمل شيء حيال نسخ فراني آند زووي لسالنجر المستمر تداولها في مكتبات البلد العامة («إن قذارة خطيرة تنبعث من فئة معينة من الكتَّاب في الولايات المتحدة الأمريكية وتتزيا بزي ’الثقافة’»). كنت أعمل على تلك الصناديق من الملفات التي قد تساوي مائة متر أفقي من المواد، كارهة فكرة أنني لن أقوى أبدا على تصفحها كلها.

لقد كتب الكثير عن الرقابة في عهد الأبارتيد، ومنه ما كتبته جورديمر نفسها. وكثير من هذه الوثائق قرأها من قبل باحثون ومحللون بصرامة لا أصل إلى مثلها، ومع ذلك بقيت راغبة في قراءتها جميعا بنفسي. والأسوأ من ذلك أنه كان ثمة صناديق لم ينظر فيها أحد قط، مليئة بما لا يعلمه إلا الرب، لكن الأرجح أنها احتوت بعض الأوراق الكفيلة بتقويض أي افتراض افترضه أحد يوما ما بشأن آلية عمل رقابة الأبارتيد، وربما تحويل مجال تاريخ الكتاب، وزيادتنا فهما لتأسيس الدولة الاستبدادية وتقويضها، إلى آخر ذلك. كنت في تلك الفترة تقريبا أعيد قراءة «ميدلمارش»، وظللت أجد نفسي أقف باكية في صف مستر كاساوبن. ثمة كتب أُلِّفت في هذا الشعور، وقرأت بعضها، مدوِّنة في هوامشها ملاحظات عن الكتب التي أحتاج إلى قراءتها لاحقا. قرأت كتاب كارولين ستيدمان «الغبار: الأرشيف والتاريخ الثقافي» راسمة خطًّا أحمر متعرجا تحت الجزء الذي تقول فيه إن حمَّى الأرشيف «هي الرغبة في استرجاع لحظات البداية: اكتشاف وامتلاك جميع أنواع البدايات». شكرا جزيلا لك يا كارولين ستيدمان. رسمت خطا أقل قوة حيث تتراجع عن ذلك الفهم قائلة إنه «لا شيء يبدأ من الأرشيف، لا شيء، على الإطلاق، ولو أن الأشياء يقينا تنتهي إليه. لا تجد في الأرشيف إلا قصصا أنهيت في أنصافها: تجد أنصافا وانقطاعات». عرفت أنها على حق، في أن كل أرشيف هو بالضرورة متشظ وناقص، لكنني لم أحب ذلك.

أخيرا كففت عن كوني طالبة، بعدما استطعت أخيرا أن أنتزع نفسي من الأرشيف وأكتب شيئا عما رأيت أني توصلت إليه. كففت عن القلق من عدم نظري إليه بالقدر الكافي، لأنني بالطبع لم أنظر بالقدر الكافي، وكففت عن تدوين ملاحظات عاجلة لنفسي في هوامش روايات جورديمر. عاودت قراءة كتبها بهدف المتعة، وحاولت ألا أبدو وكأنني أمتلكها كلما جاء ذكر لها في الحوار، لأنه ببساطة لا أحد يبالي ببحثك.

ومع ذلك، حينما بدأت شائعة في الانتشار بأن جامعة ويتس تخلت بالمصادفة عن المكتبة التي تبرعت بها جورديمر، وصلت إليَّ القصة مرارا من أصدقاء كانوا على يقين من أنني سوف أهتم اهتماما خاصا، بوصفي شخصا أرشيفيا، وشخصا جورديمريا، ودودة قراءة. جاءتني رسالة نصية، بعثها صديق لصديق لصديق، جاء فيها أن شخصا كان يسير بجوار المكتبة ورأى أكواما من صناديق كتب تحمل إهداءات إلى جورديمر، وعليها إشارة تقول إنها بالمجان لمن يريد الحصول عليها. نشرت ميل آند جارديان خبرا مجهلا ضمن مقالة طويلة عن إخفاقات حفظ السجلات في جنوب أفريقيا ما بعد الأبارتيد، جاء فيه أن شخصا رأى أكوام كتب خارج مكتبة، ولاحظ أن العديد منها يحمل «إهداءات إلى حاصل على نوبل في الأدب، بعضها من كتَّاب آخرين لا يقلون شهرة».

لم تمض المقالة إلى حد تحديد اسم المكتبة، أو الحاصل على نوبل، ولكن كان من السهل معرفة من المشار إليه.

فليس في جنوب أفريقا سوى حاصلين اثنين على نوبل، وكان الجحيم بعينه ليندلع لو أن الكتب المتروكة خارج المكتبة كانت تخص الشخص الآخر. كان مركز رانسم ليبذل نوعا ما من جهود تعقب المخالطين، أو يلصق إعلانات في شتى شوارع جوهانسبرج إلى أن يأتي بجميع هذه الكتب. ولكنها كانت جورديمر بالطبع. ولكل من خالجه الشك، فقد نشرت برفقة المقالة صورة فوتغرافية لـ(صاحب نوبل) وهو بالطبع جورديمر حاملة قطتها.

بحسب المقالة، والنسخ العديدة من الشائعة الطافية في الأنحاء، أدركت الجامعة ما جرى بسرعة. فوجهت نداء باستعادة الكتب، والظاهر أن أغلبها قد استعيد. وهذه فكرة لطيفة، لكنك تفكر فيها فتجد أنها لا تفلح. فما لم تكن المجموعة قد فهرست قبل التخلُّص منها، كيف يمكن أن يثق أحد في أن الكتب جميعا قد أعيدت؟ ولو كانت المجموعة قد فهرست، فلماذا تخلصوا منها وهم يعلمون من صاحبتها؟ كرهت هذه القصة فور أن سمعتها. بدا أنها تقول جملة من الأمور شديدة الإحباط بسرعة بالغة، أغلبها عن الدور الذي يلعبه المال في صياغة تركة. سهل أن نتخيل كيف حدث ما حدث؟ تورِّث صاحبة نوبل مكتبتها للجامعة التي تعاني نقصا شديدا في التمويل وتعاني منذ 5 سنوات أزمة مالية. تتلقى الجامعة الكتب، لكنها لا تجد مكانا لها، ولا مال لديها تدفعه لطالب دراسات عليا كي يفحصها جميعا. لا مجال لإقامة معرض لها في أي وقت قريب، أو لإقامة احتفالات على مدار أسبوع تنتهي بحفل يعطي فيه لكل من الحاضرين سلسلة مفاتيح عليها صورة بالسلويت لنفايات المناجم حول جوهانسبرج.

توضع الكتب في مخزن، ربما مع وضع ملصقات صغيرة على الصناديق موجهة إلى الجدار، وذات يوم يأتي موظف جديد مثلا ويفكر أن الوقت قد حان لإفساح المكان قليلا. لا أستطيع ألا أفكر في هذا.

كرهت فكرة أن مكتبة جورديمر قد تبعثرت في أنحاء جوهانسبرج بينما مكتبة ديفيد فوستر والاس تتنفس هواء الاحترام في تكساس. وددت لو يثير أحد جلبة، يتصل بالمدير، يستهل حملة شعبية عنيفة. عندما فقدت مكتبة فرانك كيرمود خلال انتقاله من بيت إلى بيت (وتذهب القصة إلى أنه أخطأ وتصور أن عمال جمع القمامة في كمبردج هم عمال نقل الأثاث)، أصبح ذلك خبر صفحة أولى في التايمز: «الطبعات الأولى من كتب أستاذ جامعي تنتهي في عربة نفايات».

30 صندوقا من الطبعات الأولى والمخطوطات والكتب ذات الإهداءات الشخصية، ترمى في آلة الكبس وتسحق فيها. طالب كيرمود بعشرين ألف جنيه تعويضا، فاعترضت البلدية بدعوى أن الخطأ ليس خطأها في خلطه بين جامعي القمامة وعمال نقل الأثاث وأنه «فور تبيُّن الخلط بينهم وبين عمال نقل الأثاث، لم يكن بوسعهم الرجوع إلى العربة لإنقاذ ممتلكات الأستاذ الجامعي لأنه ليس بوسع أحد الدخول في آلة كبس». ثمة ـ بالنسبة لمقالة قصيرة ـ كثير من التفاصيل المتعلقة بعملية الكبس، لكن لا شيء عما كان في تلك الصناديق فعليا، ولا شيء عما وصل بكيرمود إلى العشرين ألفا كرقم يعوضه عن خسائره.

ثمة بداخلي ما يشعر بأن الخسارة غير قابلة للحساب. ماذا لو أن في أحد تلك الصناديق المكبوسة ما كان من شأنه أن يغيِّر النقد الأدبي إلى الأبد؟ ماذا لو أننا كنا إزاء وضع كوضع مفتاح جميع الأساطير - في رواية ميدلمارش -، أي إزاء شيء كان بإمكانه أن يفتح لنا الباب واسعا إلى السر؟ ذلك الجزء مني هو نفسه الذي قضى شهورا يفكر في مكتبة جورديمر وسط أنين، وسؤال لأصدقائي عما إذا كانوا راغبين في الاستماع إلى قصة حزينة حزنا لا يوصف، وحكيي لهم كل شيء حتى حينما يقولون إنهم لا يريدون الاستماع. ذلك الهدر والإهمال، ما أكثرهما وما أصعب أن نحدد الآن حجمهما.

بعث لي أمناء مكتبة الجامعة قائمة بما في حوزتهم في الوقت الراهن: 526 كتابا في حالة جيدة فهي «المادة القرائية التي يمكن توقعها في مكتبة نادين جورديمر». سيرة ستالين لدويتشر، وسيرة تيتو، ورسائل أحمد كثردا من جزيرة روبن، وأرخبيل الجولاج، والترجمة التركية لـ«أهل يوليو»، وثلاث نسخ من «تاريخ الثورة الروسية» لتروتسكي، ورسائل سيمون ويل، والرسائل الكاملة لمراسلات أدورنو وبنيامين، وخمس عشرة نسخة من «بيتهوفن كان أسود بنسبة واحد إلى ستة عشر»، وكثير من الكتب لكتاب من جنوب أفريقيا (بيسي هيد، وزيكس مدا، وإسكيا مفاهليلي، وإيفان فالدسلافيتش) وكثير من الكتَّاب الأفارقة (سمك استوائي لدورين باينجانا الصادرة سنة 2005 من بين الكتب القليلة الصادرة في القرن الحادي والعشرين) والكثير من توماس مان، وكثير من الكتب عن توماس مان (منها واحد عنوانه «توماس مان: الألماني الساخر»)، والكثير من الألمان الساخرين أيضا. ثمة كتب لسوزان سونتاج أقل مما كنت أتوقع ـ الحقيقة أنه ما من كتب لها مطلقا ـ ومن الشعر كذلك. ثمة القليل من دوستويفسكي (فقط الإخوة كرامازوف) والقليل من تولستوي (فقط «سوناتا كرويتزر») والقليل من لورنس (الكنجارو) والقليل من تورجينيف (كتاب واحد فقط يضم الأعمال الكاملة). ولا شيء لروث، أو رشدي، ولا سبيل إلى معرفة سبب هذا. قد تكون هناك نسخة من «الرعوية الأمريكية» وعليها إهداء غزلي من روث قابعة على رف في روزبانك في هذه اللحظة، بجوار نسخة متخمة بالحواشي من «ضد التأويل» [لسونتاج] ومليئة بملاحظات في الهوامش تكشف أمرا استثنائيا عن صداقة جورديمر وسونتاج. قد تكون هناك نسخة من «آنا كارنينا» في مكان ما وعليها علامات بقلم الرصاص بجوار جميع الأجزاء الواصفة لأذني آنا كما في نسخة إديث وارتن من الرواية، وقد يمهد اكتشاف هذه النسخة السبيل إلى فتح جديد في دراسات تولستوي، أو على الأقل قد يؤدي إلى مبرر لإقامة مؤتمر يقام في ذروته حفل يحصل حاضروه على حقائب قماشية تحمل رسمة لأذن أنثوية دقيقة.

ولعل السبب أيضا في عدم وجود أي كتاب لرشدي أو دوستويفسكي بين 526 كتابا هو أن جورديمر أعارتها لأصدقاء، أو تخلصت منها قبل سنوات لإفساح المجال للمزيد من الألمان الساخرين. ولعلها تخلصت من بعض كتبها لنفس الأسباب التي يثيرها أبواي دائما، وهي أنهما لا يريدان أن أتحمل أنا وأخي مسؤوليتها بعد وفاتهما. ربما وقعت بعض حوادث الكبس قبل سنوات ولم تجد طريقها قط إلى الصحف، أو تعرَّضت غرفة المعيشة لفيضان، أو أن جورديمر اتخذت قرارا بألا يوجد في البيت كتاب لسونتاج لأسباب لن نعرفها أبدا.

وبالنظر إلى الأمر هذه النظرة، فإن قائمة الكتب الباقية أو المستعادة تبدو مختلفة. ما الذي يعنيه أن نعرف أن جورديمر كان لديها في مكتبتها عدد مدهش من كتب ل. ب. هارتلي. ربما لا يعني أكثر من إعجابها بقوله إن الماضي بلد أجنبي، وإن أصدقاءها اعتبروا استشهادها بذلك في حديث إشارة إلى أن شعورها تجاه أعماله أقوى مما هو في الحقيقة. وما الذي ينبئنا به أن جورديمر امتلكت نسخة من «المعلم» لكولم توبين عدا أنها قد تكون قرأتها، وقد تكون بالمثل لم تقرأها.

ثمة نسخة من «كتاب يعملون: حوارات باريس رفيو ـ الجزء السادس» في القائمة التي حصلت عليها من المكتبة. في الكتاب حوارات مع ريبيكا ويست، وستيفن سبندر، وتينيسي وليمز، وإليزابث بيشب، وجابرييل جارثيا ماركيز، ونادين جورديمر وآخرين، ومحرره هو فرانك كيرمود. يبدأ حوار جورديمر بسرد تفصيلي ناصع لـ«طفولتها الغامضة» في سبرنجز وهي بلدة تعدين صغيرة خارج جوهانسبرج. تحكيها كأنها قصة. والدتها ـ التي تزوجت زيجة تعيسة فلم يبق لها إلا الهوس بأبنائها ـ تقنع نفسها وطبيبها وابنتها بأن جورديمر «ضعيفة» وأن لها قلبا ضعيفا: «لما بلغت من العمر حد أن أقرأ جميع أنواع الكتب التي قادتني إلى الإيمان بأن مصابي يجعلني شديدة الإثارة ... لما بلغت الحادية عشرة ـ لا أعرف كيف فعلت أمي هذا، أخرجتني أمي من المدرسة تماما. لمدة سنة لم أحظ بتعليم على الإطلاق. لكنني كنت أقرأ بنهم. وانكفأت على نفسي، صرت استبطانية للغاية. غيَّرت شخصيتي بالكامل». ما من بيان في الحوار، أو في غيره، لما قرأته بالضبط. ما الكتب التي كانت على الأرفف في بيت طفولتها؟ إن لدينا تركتها، أو بعض أجزائها، لكننا لن نعرف أبدا شخصيتها الكاملة، وهذا ما ينبغي أن يكون.

 

روزا ليستر Rosa Lyster كاتبة تعيش في كيب تاون.

نشرت أعمال لها في ذي نيويوركر ولندن رفيو أوف بوكس، وذي نيويورك تايمز وغيرها.