أفكار وآراء

أبحاث دمج الذكاء البشري والاصطناعي بين الطموح والجموح

14 سبتمبر 2020
14 سبتمبر 2020

د.صلاح أبونار -

جاءت تطورات أبحاث شركة نيورالينك الأمريكية، والتي توالت أخبار كشوفها على مدى الفترة من 2017 حتى منتصف العام الماضي، لتضعنا أمام التطورات المحتملة والمذهلة في مجال المحاولات المتواصلة لتوحيد الذكاء البشرى والذكاء الاصطناعى. في السابع عشر من يوليو 2019 أعلن إيلون ماسك نجاح شركته في تحقيق خطوات ضخمة في مجال الدمج بعد أبحاث متواصلة تخللتها تجارب على قرود وفئران وخنازير، واستعدادها للانتقال إلى مرحلة التجارب على البشر. وهكذا دفع ماسك الذي يجمع في شخصه بين المنظم الاقتصادي والعالم، بالنقاش حول قضية دمج نمطي الذكاء إلى بؤرة الاهتمام العام، بعد أن ظلت لسنوات لا تعرف اهتماما عاما رغم كثافة الأبحاث الجارية داخل المختبرات.

تتسم الثورة الرقمية وفي إطارها الذكاء الاصطناعي في مرحلتها الراهنة، بإيقاع تطور شديد السرعة يحمل معه نقلات كيفية عميقة ووعود بتطورات، كانت فيما مضى تنتمي إلى عالم روايات الخيال العلمي. وخلق هذا في داخلها نزعة تجمع بين الطموح والجموح. طموح مشروع أو طبيعي يستهدف المزيد من توظيف تقنيات تلك الثورة، لحل المشاكل الإنسانية المستعصية أو لاكتساب المزيد من السيطرة والمعرفة. وجموح متطرف ينطلق من الخوف من تطورات مستقبلية يتوهم حضور مقدماتها، يتقدم فيها الذكاء الاصطناعي إلى مواقع السيطرة مزيحا الذكاء البشري من مكانته الراهنة ومهددا الوجود الإنساني نفسه، وبالتالي يتصور الحل في إطلاق طاقات الذكاء البشري عبر دمجه لتقنيات الذكاء الاصطناعي داخل تكوين العقل البشري. وتلك هي المقدمة الضرورية لفهم مشروع إيلون ماسك بشقه الأول الطموح وشقه الثاني الجموح.

يسعى البعد الأول الطموح نحو تطوير ما يتفق المتخصصون على وصفه بمصطلح «الواجهات العقلية A الرقمية». ويطلق هذا المصطلح على وسيط رقمي، مصمم بما يسمح له بالتواصل المباشر مع العقل الإنساني لكي يقرأ ما يدور في خلاياه العصبية، ثم يقوم بتحويله إلى توجيهات مباشرة صادرة من العقل في صيغة رقمية بحتة، وموجهة صوب أجهزة خارجية مزودة بخاصية استقبال وترجمة التوجيهات رقميا، وتحويلها إلى الاستجابة العملية المطلوبة. ولهذه الواجهات تاريخ سابق على محاولات شركة نيورالينك. فنحن نجد نماذج لها في تجارب وإنتاج شركات مثل كيرنيل وبارادوميكس ونيرو بيس وميدرونيك. وحتى الآن تتواجد تلك «الواجهات» عبر شكلين. شكل خارجي مكون من مستشعرات مترابطة في صورة غطاء للرأس يرتديه الشخص الذي يصدر الأوامر. ومن أبرز نماذجها المستشعرات التي ارتداها باحث في جامعة الدولة في اريوزنا عام 2016، في تجربة تمكن فيها من توجيهه أربع طائرات مروحية درونز صعودا وهبوطا وانتشارا وانضماما، عبر أوامر ذهنية تقرأها المستشعرات وترسلها رقميا إلى الطائرات. هذا الشكل يعتبر بدائيا، لأنه مهما كانت دقة المستشعرات سيظل بعيدا عن الخلايا العصبية التي تدور داخلها العملية العقلية، وبالتالي أقل قدرة على التقاط الدقيق والسريع لما يجري داخلها. وهكذا تصنفه الدراسات في إطار المستشعرات «اللا توغلية»، أي تلك التي تعمل من خارج الرأس ولا تتواجد على أي درجة من التوغل أو الانغراس الجراحي المحسوب داخل المخ.

والشكل الثاني للواجهات هو الشكل «التوغلي» الأكثر تطورا، والذي يتكون من شريحة أو شرائح رقمية يتم غرسها بعمليه جراحية داخل اللحاء المخي، في موقع أو مواقع معينة وبدرجة محسوبة لا تضر بالخلايا العصبية. وفي هذا الشكل يتركز عمل شركة نيورالينك. وفقا للبيانات الصادرة عن ايلون ماسك، والمستخلصة من الأبحاث التي طبقت على عينات الحيوانات، توصلت الشركة إلى ابتكار شريحة إلكترونية يصل قطرها إلى أقل من 8 ملليمترات أي أقل من بنانة الأصبع، ويطلق عليها ماسك المسبار أو ماكينة المخ وأحيانا يدعوها «الدانتيلا العصبية»، وهو وصف استعارة من روايات إيان بانكس العلمية الخيالية. ويجري غرس تلك الشريحة داخل اللحاء عبر 96 خيطا عالي المرونة أرفع من شعر الرأس، ويتكون كل خيط منها من 32 قطبا إلكترونيا، كل منها قادر على مراقبه نشاط ألف خلية عصبية، وهو ما يعني أن الشريحة تتكون من 3072 قطبا. ويجرى غرسها داخل الأجزاء المتخصصة في استقبال المثيرات الحسية من لحاء المخ، عبر جهاز يدعوه ماسك «ماكينة خياطة» ابتكرته الشركة بالتعاون مع علماء من جامعة كاليفورنيا وشركة فيرونالينك، ويعمل بدرجة دقة تصل إلى ميكرون أي واحد على مائة من المللي، وبمعدل 6 خيوط في الدقيقة الواحدة. وسوف تصبح الشريحة جزءا من تكوين المخ نفسه محققه ما يدعوه ماسك «التعايش بين الذكاء الإنساني والذكاء الاصطناعي»، وغالبا سيكون الفرد في حاجة إلى زرع ما يقرب من ست شرائح لأداء المهام المطلوبة منها. وهناك في النهاية جهاز خارجي يوضع خلف أذن الشخص يقوم بمهام الاتصال بالواجهة.

والمؤكد أن تقنية الواجهات المزروعة جراحيا في المخ ليست من ابتكار نيورالينك، فهي موجودة من سنوات عديدة ومستخدمة في منح مبتوري الأقدام قدرا من القدرة على تحريك أطراف صناعية. والجديد أن نيورالينك قد حققت فيما يبدو نقله كيفية، نتيجة للوصول لمستشعرات أدق وأكثر عددا وأقرب للخلايا العصبية، وأعلى قدرة على استقبال وفك إشارات المخ وإرسالها رقميا إلى الخارج، واستقبال رسائل رقمية من الخارج وتوصيلها للخلايا المختصة باستقبالها. وحتى الآن لا نعرف بدقة مدى نجاح تلك التقنية مع البشر، لأن تجاربها محصورة في عينات من الحيوانات، ولكن الشركة أعلنت عن البدء في إجراءات الحصول على الإذن الحكومي بالدخول في مرحلة التجريب البشري. وبافتراض أن مرحلة التجريب البشري ستنتهي بالنتائج التي تأملها الشركة، سوف نكون أمام احتمالات ضخمة لمستقبل الدمج بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي. ولكن أغلب المؤشرات تشير إلى أن الشركة في المرحلة الراهنة والقريبة تسعى أساسا لتحقيق نقلة كيفية للتطبيقات السابقة لتقنية الواجهات، في مجال علاج أمراض الخلل في خلايا المخ والجهاز العصبي، وبالتحديد الزهايمر والصرع وباركينسونز وفقدان بعض الحواس البشرية والشلل الثنائي والرباعي الناتج عن التلف في أعصاب العمود الفقري أوخلايا المخ.

ويسعى البعد الثاني الذي دعوناه بالجموح إلـى دمج أعمق بين نمطي الذكاء بحيث يصبحان عملية عقلية عضوية داخلية واحدة، تعمل على دمج إمكانيات الذكاء الاصطناعي داخل آليات عمل الذكاء البشري، وبشكل مستقل عن ضرورات الاحتياجات المرضية للأشخاص. وهنا نشعر أننا في قلب عالم الخيال العلمي. ركزت المتابعات الإعلامية على البعد الأول مكتفية بإشارات عابرة للثاني. هذا البعد الثاني حاضر داخل تصورات ماسك المعلنة، ولكن دونما استفاضة وعبر صيغ أقرب إلى التهويمات منها إلى أطروحات على درجة مقبولة من النضج والتفصيل. في قمة دبي للحكومة العالمية يناير 2017 سنجد عدة عناصر للفكرة في خطاب ماسك. يطرح الأول أن الذكاء الاصطناعي ينمو بمعدلات سريعة وضخمة ويقترب من السيطرة على العالم، ليصبح الإنسان بذكائه المحدود محاصرا تماما بل مهددا في وجوده نفسه. ويرى الثاني أن الحل لمواجهة هذا المأزق هو الدمج بين نمطي الذكاء أو ما يدعوه التعايش بينهما عبر زرع الواجهات الرقمية في المخ البشري. ويحذرنا الثالث من الانزعاج من الفكرة لأننا نعيش بالفعل نمطا لهذا الدمج، فكل منا يمتلك شريحة رقمية في صورة موبايل أو حاسب محمول أصبحت جزءا من عملياته العقلية، وما سيحدث هو تحويل تلك العلاقة الخارجية إلى علاقة داخلية مع نقلات كيفية. ولكن حضور هذا البعد يتخطى قناعات ماسك الشخصية، وسنجد عناصره الدافعة في الواقع نفسه. سنجده حاضرا في تداعيات الكشف العلمي، حيث ستفرض خطوة ما خطوات أخرى ضرورية لها، وحيث ستفتح تراكمات الكشوف العلمية الأبواب أمام كشوف أخرى. وسنجده أيضا داخل منطق التنافس السياسي، حيث سيدفع تنافس القوى الكبرى إلى الرد على إنجازات الخصم الرقمية بإنجازات مماثلة. وكيف نقيم هذا البعد الثاني؟

يخطئ ماسك في تشخيص تهديدات الذكاء الرقمي. لا يشكل الذكاء الرقمي تهديدا للذكاء الإنساني، بل يهدد العمل الإنساني والحرية الإنسانية. يتجه الذكاء الرقمي إلى تقليص فرص العمل بنسب عالية، والأخطر النخبوية المفرطة لفرصه البديلة. كما يميل الذكاء الرقمي للتجاوب السريع مع الاحتياجات السياسية لسلطة الدولة، موفرا لها إمكانيات رقابة عالية على الأفراد وخصوصياتهم، وبالتالي تهديدا لحرياتهم. والواقع أن الذكاء الرقمي سيظل رغم ضخامة إنجازاته تابعا للذكاء الإنساني، لا يمكنه أن يعمل أو يقتحم آفاقا جديدة إلا من خلال فعل الذكاء الإنساني أو مدخلاته. ويخطئ ماسك في إدراك التبعات الجسيمة لتقنياته المأمولة على الطبيعة الإنسانية. ليس من شأن هذا الدمج الارتقاء الكيفي بالذكاء الإنساني بل فقط سيكسبه طابعا كميا ميكانيكيا، أي سرعة الإنتاج وكثافة المدخلات والمخرجات. بينما أساس قوة الذكاء الإنساني وإنجازاته التاريخية في نزعته الأخلاقية وإصراره على ممارسة الحرية وإعلائه لقيمة التجربة والخطأ. فلم يكن الذكاء الإنساني محض فعل يسعى لتراكم المعرفة، بل فعل يسعى لتحرير الإنسان وارتقائه. ويسيء ماسك إدراك التهديدات الأخلاقية الجسيمة التي يحملها هذا الدمج. فهو سيمنح جهات تقنية نخبوية، على تحالف حتمي بمراكز الثروة والسلطة، ويصعب إخضاعها للرقابة الاجتماعية، قدرات استثنائية على التلاعب بالعقول وتشكيلها ورقابتها.