أفكار وآراء

صياح الديك .. رمزية اليقظة والنور

13 سبتمبر 2020
13 سبتمبر 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

ﻳﻤﺜﻞ ﺻﻴﺎﺡ ﺍﻟﺪﻳﻚ ﻓﻲ ﺻﺒﺎﺡ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﺟﺪﻳﺪ ﺍﻧﺘﺼﺎﺭﺍ ﻟﻠﻨﻮﺭ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻈﻼﻡ وللخير على الشر» ــ كما يعرف المنتخب الفرنسي، بمنتخب «الديوك»، والاسم مستوحى من شعار الديك الفرنسي الذي اعتمد في البلاد منذ القرن الرابع عشر رمزا لليقظة الفرنسية».

عندما تكون في قريتك البعيدة عن صخب المدينة ربما لن تلتفت كثيرا إلى صياح الديك، وقد تعتبره ممارسة نمطية لهذا الكائن الجميل، ولكن عندما تكون في عمق المدينة، وبين مبانيها الضخمة، وهالاتها المتعاظمة، قد يستفزك صوت الديك، وقد تخاطب نفسك: معقول أن أسمع هنا صوتا للديك؟

ربما لأن الذاكرة تستحضر صياح الديك كأنه موروث تقليدي، أو لأنه واحد من الذاكرة الطفولية التي تربت سماع الكثير من أصوات الحيوانات التي تمتلئ بها القرى في ذلك العهد البسيط، قبل أن تتداخل معه تعقيدات العصر، فيبدو أن مكونات ذلك العصر لا تزال تحافظ على محتوياتها، وتلملمها على هيئة رصيد حتى لا ينسيها حاضرها ماضيها، ولكن الأمر يبدو غير ذلك تماما عند مجموعة هذه الحيوانات، أو بعضها على الأقل، حيث ما زالت تلعب أداورا محورية في حياة الناس، منذ ذلك العهد البعيد الذي أرّخته لنا، ولا تزال موسوعة (كليلة ودمنة) التي جاء على ألسنة الحيوانات، وهي ذو الأصول الهندية، والتي ترجمها إلى اللغة العربية عن اللغة الفارسية الأديب العربي عبدالله بن المقفع، ولذلك ظلت لكثير من الحيوانات مكانتها في المساهمة المعرفية، بما يسند إليها من أدوار بصور رمزية مختلفة، وذلك كله للخروج من الصورة التقليدية أو النمطية التي يلصق النص بها دائما للإنسان فقط، حيث مع تكرارها لن تثير الدهشة، ولن ترسخ الرسالة المقصودة في النص، ولذلك يؤتي بالحيوانات «الرمز» للخروج من هذه النمطية المتوارثة، ولشدة الذكاء الذي عليه الإنسان، فقد لجأ إلى مجموعة الحيوانات ليسند إليها هذا الدور الريادي في إيصال الرسائل المختلفة، لليقين الموجود أن النص لن يكون مدهشا وصادما إلا عندما توجه بوصلته بإلصاقه برمز ما، من رموز الحياة المختلفة، وما أكثرها، وعندها قد يأتي النص على لسان أحد هذه الحيوانات على شكل قصة، أو أبيات من الشعر، أو نص مسرحي.

وفي عصرنا يؤتى بالحيوان بجسده التجريدي الملموس ليحكي قصته بنفسه، وبحضور الإنسان الذي روضه على ذلك، وما ألعاب السيرك إلا واحدة من هذا التوظيف والترويض.

في هذه المناقشة اليوم، نستحضر الـ«ديك» هذا الطائر المغرد في صباحات الأيام ومساءاتها، وهو ما عرف عنه بدقة التوقيت لإطلاق صياحه، مع أن هذه الدقة المتناهية سببت له الكثير من الإزعاج، وأدت به إلى حبل المشنقة، حيث تكاثرت عليه الشكاوى، مما أحرج صاحبه في مواقف كثيرة، وآخر هذه الشكاوى، كما تداولتها المواقع الإلكترونية المختلفة، ومنها موقع (khatawat7.net) هي قصة الشكوى التي تقدمت بها الدبلوماسية الإيطالية إلى الشرطة في الجزائر، حيث نص الخبر على: «قامت الشرطة الجزائرية باعتقال لديك «سردوك» وذلك في التاسع من فبراير الماضي، وذلك بعد أن قدمت دبلوماسية إيطالية شكوى للشرطة الجزائرية ضد «ديك» أزعجها صوته كثيرا. فاستجابت الشرطة الجزائرية لشكوى الدبلوماسية وأقدمت على اعتقال الديك» ــ انتهى النص ــ وتتماثل حوادث الشكوى من ديك الجيران في كثير من المواقف، والأماكن، والأزمان، ولكم سمعنا قصصا مماثلة يُشتكى فيها من صياح الديك، وإزعاج جيران صاحبه، وفي كل مرة كما هو معروف القبض على الديك، وإنهاء حياته في أقرب وجبة غذاء.

نسمع كثيرا عن مقاربات موضوعية بين هذا الكائن الجميل الـ«الديك» وبين هذا الكائن الأجمل الـ«إنسان» وهذه المقاربات تتركز كلها حول صياح الديك، وحول يقظة الديك، وحول الزمن الموقوت بالدقائق المحددة لإطلالة الديك صائحا، ويقظا، وموقظا، ومستيقظا، ولذلك هو مكرم، ومعزز، وينظر إليه بكثير من الود والاحترام خاصة وهو يزهو بألوانه الفاقعة، والناصعة، والرائعة، فقد وهبه اللون سرعة الافتتان به، وهو يختال هنا أو هناك، مما حدا بهذا الإنسان نفسه إلى القول: «الديك يرمز إلى التجدد واليقظة والقوة» وبهذه الصفات الرائعة، والإيجابية يحظى هذا الكائن بهذا التقدير الذي نتحدث عنه، إلا أن المقاربة تذهب إلى أبعد من ذلك أيضا، حيث تم توظيفها في البعد السياسي العميق، وقد اعتمد كرمز وشعار لدى بعض الشعوب، ومنها الشعب الفرنسي، ففي الثقافة الفرنسية، «الديك» «جالي» ﻫﻮ ﺭﻣﺰ ﻭﻃﻨﻲ ﻏﻴﺮ ﺭﺳﻤﻲ ﻟﻠﺸﻌﺐ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻲ، ﺍﺗﺨﺬه الفرنسيون ﺭﻣﺰﺍً ﻟﻬﻢ ﻣﻨﺬ ﺍﻟﺤﺮﻭﺏ ﺍﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺼﻮﺭ ﺍﻟﻮﺳﻄﻰ باﻋﺘﺒﺎﺭ ﺃﻥ ﺍﻟﺪﻳﻚ ﺣﻴﻮﺍﻥ ﻣﻘﺪﺱ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﺮﻭﻣﺎﻥ ﻭﺍﻹﻏﺮﻳﻖ، وعند الفرنسيين ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﻭﺍﻟﻨﻮﺭ، ﻭﻳﻤﺜﻞ ﺻﻴﺎﺡ ﺍﻟﺪﻳﻚ ﻓﻲ ﺻﺒﺎﺡ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﺟﺪﻳﺪ ﺍﻧﺘﺼﺎﺭﺍ ﻟﻠﻨﻮﺭ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻈﻼﻡ وللخير على الشر» ــ كما يعرف المنتخب الفرنسي، بمنتخب «الديوك»، والاسم مستوحى من شعار الديك الفرنسي الذي اعتمد في البلاد منذ القرن الرابع عشر رمزا لليقظة الفرنسية».

يقال في المثل العربي: «كلُّ كلبٍ ببابه نبَّاح وكلُّ ديكٍ على ــ مزبلته صياح» وهذا المثل لا يخرج عن المعنى الذي يحمله مثل: «كل عين تبكي على ما شجاها» أو «كل إناء بما فيه ينضح» وإذا كانت العناوين تختلف، وتتمايز، وتتقاطع باهتمامات الناس، وتعدد مشاربهم، فإن للديك اهتماما واحدا، نعرفه جميعا، وهي تلك الوظيفة التي أوكلها إليه رب العزة والجلال، وهي إيقاظ الناس من سباتهم في أوقات محددة، لا تخطئ كثيرا، حيث تراتبيت الزمن المحدد فسبحان الله على ما أودع في هذا المخلوق البسيط، هذه النباهة التي ربما قد لا يلتفت إليها أناس كثيرون، فرحلة إيقاظ الناس وتحفيزهم ليست بالأمر الهين، ولعلنا نستشف هذا المعنى من مقولة ابن خلدون: «إن الإنسان إذا طال به التهميش يصبح كالبهيمة، لا يهمه سوى الأكل والشرب والغريزة» وهذا ما يفهم في رمزية الاستيقاظ التي يمارسها الديك بصورة فطرية، ولكنها يمكن أن تخضع للتوظيف السياسي حسب قول ابن خلدون، وفي شأن آخر فـ«الإنسان بحاجة للتحفيز والتقدير والشكر» وهذه موجهات لن تأتي هكذا بالفطرة، فلا بد لها من قائم بالأعمال، كما هو التعبير، ويأتي الديك هنا ليوقظ في الإنسان هذه المعاني من خلال هذه الديمومة في صياحه المتكرر والموقوت بأزمانه المحددة جدا.

ومن جميل ما قرأت في ذات السياق النص التالي: «قلت لصديقي: لماذا يصيح ديككم؟ قال: اشتكى منه الجيران لأنه يوقظهم، فذبحناه. هنا فهمت أن كل من يوقظ الناس من سباتهم على امتداد التاريخ هناك من يريد قطع رأسه. في حياتنا يتداول الناس اسم الدجاج، ولا أحد يذكر الديك. يفكر بمن يملأ بطنه ولا يفكر بمن يوقظ عقله وفكره»- انتهى النص - جملة في غاية الدلالة، وبقدر ما فيها من إسقاطات سياسية رائعة، إلا أنها في الوقت نفسه كم تنبئنا بالممارسة النمطية من تكميم الأفواه، حيث يبقى ليس من اليسير إطلاقا أن يتقبل الرأي والرأي الآخر، بالبساطة المتناهية، ولذلك تضيع الحقوق، وتنتهك الأعراض، وتشرى الذمم، بثيمة واحدة معتمدة، وهي الصمت، ولذلك يقال: «لن يضيع حق وارءه مطالب» وهذا المطالب، هو الذي يصرخ بملء فيه، ومع ذلك ليس له إلا الصراخ في بعض المواقف والنتائج

أختم هنا بأبيات رائعة جدا في حق الديك، وقائلها هو الشاعر الفلسطيني برهان الدين العبُّوشي - رحمه الله - في قصيدته « الديك البطل»:

حلفــت بــديكنا وحلفــت حـــــقــا بــأنـــــي لــم أجــــد بطــلا ســواه

يهـــاجمني وينقرنـــي ويرمـــي      بمخلبـــه وتجـــرحنـــي مـــــــــداه

ويقفــز كــالهزبر ســخرت منــه   ويبــــذل روحــــه يحمــي حمــاه

إلى أن يقول:

أتحبســــــنا وتأكــــــــلنـــا وتعـــدو     على الأقفـاص تنهب ما تراه

ولــو كنــا ســـــــــــــــباعا لــم تنلنــا     فـــإن الســـــــبع تحميــــه يــــــداه

وإنــي ثــرت أدفــع عــن كيــاني    وفــيم عجبــت إذ أفنـــى فــــداه

فقلت لعل هذا الديك أذكــى     مــن الزعمــاء إذ يفـــدي لــواه