أفكار وآراء

المحتوى الإعلامي .. وصناعة القطيع

30 أغسطس 2020
30 أغسطس 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

الجمهور العريض جمهور «فسيفسائي» عميق ومعقد، وبالتالي ليس من اليسير إطلاقا أن توضع له حدود فكرية تحميه من مغبة الوقوع في مستنقع القطيع، على طول الخط، وكذلك ليس من اليسير رفعه إلى مستوى الجمهور النخبوي الـ«عنيد» ولكن يمكن الوقوف في منتصف الطريق، أو كما يقال «قبض العصي من المنتصف.

أتصور أن اليوم وفي ظل ثورة فكرية، وتقنية عالية، يصبح ليس من اليسير صناعة «قطيع» حتى ولو وصلت القدرة لدى صانع الرسالة الإعلامية من الخبرة، والحنكة، والتمكن، المسنود كل ذلك بالمعرفة، والسبب في ذلك يعود إلى الإحاطة شبه الشاملة لما يدور في أفق الناس وحياتهم اليومية، حيث لم يعد الأمر مخفيا فيما يدور، وفي غير المعلن عنه، فقد تماهت حدود السرية المطلقة إلى حد كبير، من قبل أفراد المجتمع الإنساني، حيث يتلقى أفراد المجتمع كما هائلا من الرسائل طوال اليوم، بالإضافة إلى قدرتهم الكبيرة ومساهمتهم؛ في الوقت نفسه؛ في صناعة المحتوى الإعلامي، بما أتيح لهم من وسائل يستخدمونها بأنفسهم في صناعة هذا المحتوى، والمعبرة في كثير من الأحيان عن قناعاتهم، وعن آرائهم، وعن ما يملكونه من معلومات، وعن ما يعيشونه من أحداث مباشرة، سواء في محليتهم؛ حيث محيطهم الجغرافي القريب؛ أو ما يتوارد إليهم من مختلف جغرافيات العالم، فهذا التمكن؛ سواء من توفر المعلومة، ومن وجود الوسيلة، ومن قدرتهم في صنع هذه الرسالة أو تلك، أصبح في حكم المستحيل أن تسعى أية وسيلة إعلامية على صناعة محتوى خاص بقطاع محدود من المتلقين، ومحاولة حقنهم بها فقط، لصناعة جمهور خاص لمؤازرة رسائلها؛ بحيث تستحوذ على اهتمامهم بها، ويمكن من خلال هذه الرسائل تحويل هذا الجمهور من «رأي عام عاقل»- قبل التغذية- إلى «رأي عام مجنون»- بعد إغراقه- بالرسائل الموجهة، وتحويله مباشرة إلى «قطيع» يأتمر بما تمليه عليه الرسالة الإعلامية التي استوعبها «غسيل دماغ» وتشربها، وأصبح له القدرة على توظيفها بما تسعى الرسالة الإعلامية الوصول إليه، لتحقيق أهداف المرسل، فهذا أصبح أمر مفروغ منه، ومع ذلك يحتاج إلى استحقاقات.

ولأن هذا الأمر أصبح مفروغ منه، فإن هناك أجندات سياسية؛ على وجه الخصوص؛ تسعى إلى تشويش القناعات، وإرباك المحتوى المتحصل لدى قطاع الجمهور العاقل، من خلال بث رسائل موجهة لحلحلة تموضع حالة الجماهير في مختلف البلدان شرقيها وغربيها لوضع موطئ قدم لبداية صناعة «قطيع» وتأتي وسائل التواصل الاجتماعي للعب دور خطير في هذا الاتجاه لسهولة توغلها وتغلغلها بين أحضان المجتمعات الإنسانية، ووجودها بكل سهولة بين الجمهور العريض المتفاوت نسبيا في الأعمار، وفي الرؤى، وفي الثقافة، وفي الخبرة، وفي الظروف المعيشية، وفي الظروف السياسية، والاقتصادية، حيث يذهب التوجيه هنا إلى العينة المطلوبة لمجتمعات الدول، والطرق على وتر الخدمات؛ على وجه الخصوص؛ أو الوضع السياسي والاقتصادي أو الاجتماعي، حيث تنبئ مجموعة الرسائل التي توجه من عناوينها إلى مجموعة الأهداف التي تود تحقيقيها، ويبقى أن اكتشاف الأهداف من مجموع هذا الكم الهائل من الرسائل ليس يسيرا، ولكن صور تشكل رأي عام ما، هو الذي يمكن معرفته، وذلك من خلال ما يبدأ في بثه عبر نفس الوسائل «مؤازرا» ولأن وسائل التواصل الاجتماعي هي الأقرب، فإنه من هنا يمكن تعقب هذا النوع من الرأي العام الـ «منجر» أو بما يسمى بـ «عقلية القطيع».

لذلك ينظر إلى الرسائل الإعلامية العشوائية بالكثير من الحذر والإحاطة، وتفنيد أهدافها، وهل هي ذاهبة إلى صنع رأي عام راشد، أو صنع رأي عام مشوش الفكر، يقترب كثيرا من مفهوم الـ «قطيع» وأتصور أن اليوم تشير سهام الاتهام إلى منظمة الصحة العالمية، حيث تنبئ رسائلها المتضاربة والمتناقضة في شأن جائحة كورونا (كوفيد -19) إلى التوجه في صناعة رأي عام أقرب إلى القطيع، منه إلى الرأي العام الراشد، حيث تتوالى التصريحيات الصادمة لمسار هذا الجائحة، مما حدا إلى تكوين قناعات لدى البعض من أفراد الجمهور العريض على مستوى العالم بأن هذا المرض هو لعبة سياسية، الهدف منها تمرير رسائل مختلفة سياسية واقتصادية، وإرباك الثقة بين الشعوب وحكوماتها، مما انعكس سلبيا على مجموعة التوجيهات والبرامج التوعوية التي تعمل على تثبيتها جل الحكومات، بينما في المقابل يذهب الجمهور غير الراشد إلى التحصن بقناعاته الذاتية، ضاربا بعرض الحائط كل البرامج التثقيفية التي تنادي بها الجهات المعنية من خطورة هذا الوباء، وتأتي وسائل التواصل الاجتماعي بما تحتويه من معلومات غير مؤكدة المصدر؛ فتزيد «الطين بلة»؛ فيؤدي إلى تأصيل قناعة الجمهور بأن كل ما يدور حول هذه الجائحة هو لا يخرج عن كونه تنفيذا لأجندات مختلفة، تعمل لتحقيقها دول عظمى.

ولذلك يشار إلى الإعلام البديل على أنه إعلام «مروع» وذلك لفجائيته، وقدرته اللامحدودة في صناعة جمهور حي ومتفاعل في أقل فترة زمنية ممكنة؛ ولعلنا نلاحظ؛ وفق هذا السياق الكم الهائل من المتفاعلين مع أي رسالة إعلامية، ومجموعة الأحكام التي تصدر، ومجموعة التقييمات، ومجموعة الحلول أيضا التي تطرح، تساعده في ذلك التقنية التي قطعت شوطا كبيرا، سواء في السرعة، أو في القدرة الفنية على تقديم رسالة لا يمكن الشك في مصداقيتها، أو أنها غير خاضعة لأي توجيه؛ لأنه وفي ظل هذه الضبابية، يمكن اليقين على أن أي محتوى إعلامي له أجندة خاصة وموجهة «غير بريء» أم أن درجة الحساسية بين الوسيلة الإعلامية وجمهورها المتلقي هو الذي أوصل القناعة إلى هذا المستوى، ومن هنا يمكن النظر في تكوين القطيع لأي رسالة إعلامية، وخاصة لتلك الرسائل غير موثوقة المصدر، ومتى تهافت المشاركون عليها، بوعي وبغير وعي، وهذه إشكالية كبيرة في تحييد المحتوى الإعلامي الصادق والعاقل عن غيره من المحتويات التي تأخذ بتلابيب الجمهور المتهاوي إليها من كل حدب وصوب.

التساؤل هنا الذي يمكن تضمينه: هل الباحث عن جمهور راشد، كمن يبحث عن إبرة في كومة قش أم أن المسألة مبالغ فيها إلى حد كبير؟ أتصور أن المسألة ليست يسيرة، وكذلك ليست صعبة، ولذلك أصبح وجود متحدث «رسمي» باسم الحكومات ضروريا للإجابة عن الكثير من التساؤلات التي تطرح بكثافة عن أمر ما من الأمور التي تشكل محطة اهتمام لدى الجمهور، ولعلنا نعود- للضرورة- إلى موضوع (كورونا- كوفيد 19) ومدى تضارب الفهم عند الكثيرين فيما يخص حالات الوفيات، وتصاعد أرقامها غير المعقولة، حيث تتوغل القناعة عند الجمهور بأن ما ينشر من أرقام للوفيات ليست مقصورة على وفيات هذا المرض، وإنما تدمج كل الحالات تحت نفس المسمى، وهذا الأمر لا يمكن تأكيده إن لم تصدر معلومة مؤكدة تنفي أو تؤكد هذه الحقيقة عند الناس، وبالتالي فهذا النوع من الثغرات في تبيان المعلومات؛ عن أي شيء؛ هو الذي يعزز اتساع مساحة «جمهور القطيع» على حساب «الجمهور العام الراشد» وهذا معناه أن الجماهير لم تصل بعد إلى حالة من الإشباع أو الاكتفاء من المحتوى الإعلامي الصادق والموضوعي؛ ولذلك يأتي المحتوى الآخر البديل «المفبرك» فيستقوي على متلقيه، حيث يذهب إلى صناعة محتوى يغذي الذائقة الجماهيرية، فيذهب بها إلى حيث توجه وقصد معد المحتوى، لا إلى حيث حاجة الجمهور إلى المعرفة فقط.

كما يمكن طرح التساؤل التالي؛ كخاتمة للموضوع؛ وهو: هل يمكن صناعة حدود فكرية للجمهور العريض، وماذا عن الجمهور النخبوي الـ«عنيد»؟

التصور هنا، يصعب الحكم المطلق، بنعم أو بلا، فالجمهور العريض جمهور «فسيفسائي» عميق ومعقد، وبالتالي ليس من اليسير إطلاقا أن توضع له حدود فكرية تحميه من مغبة الوقوع في مستنقع القطيع، على طول الخط، وكذلك ليس من اليسير رفعه إلى مستوى الجمهور النخبوي الـ«عنيد» ولكن يمكن الوقوف في منتصف الطريق، أو كما يقال «قبض العصي من المنتصف» وبالتالي فلا تفريط في المسؤولية للانزلاق في اتجاه الأول «القطيع» ولا إفراط في المسؤولية ذاتها في اتجاه الثاني «النخبوي» وهذه مسألة يحتاج تحققها إلى بذل الكثير من الجهد، ويأتي في مقدمتها الرسالة الإعلامية الصادقة والموضوعية والواضحة، والمتحررة من أي أجندات خاصة، والذاهبة دائما إلى خدمة هذا الجمهور العريض، بما يمليه واجب المسؤولية الوطنية والمجتمعية، وإرساء قواعد معرفية تعظّم من وعي الجمهور، وتذهب به إلى مساندة الجهد الحكومي، وتعزيز دوره في مختلف المجالات.