أفكار وآراء

النهوض العربي الحضاري والمعوقات!

26 أغسطس 2020
26 أغسطس 2020

عبد الله العليان -

في وطننا العربي لا شك أن هناك أسبابًا عديدةً للتراجع النهضوي، والتقدم المنشود قبل وبعد الاستقلال الدول العربية، وقد بدأ محمد علي في بداية حكمه بحركة إصلاحية جادة، سبقت حتى اليابان في القرن التاسع عشر، لكنها لم تحقق الأهداف النهضوية المطلوبة، ولذلك لتحرك الغرب في إعاقة هذه الحركة الإصلاحية، باعتبارها امتدادًا للدولة العثمانية..

لا يزال الحديث عن قضية التجدد الحضاري، أو التأخر النهضوي العربي، قضية محورية ودائمة الحضور في الندوات والمؤتمرات، حول مسألة الخروج من واقعنا العربي، الذي تعيش فيه الأمة وضعًا متراجعًا بالقياس مع الكثير من دول العالم، كالهند وكوريا وماليزيا وغيرها من الدول الأخرى التي بدأت تصعد وتتقدم، وكانت في مستوى بعض الدول العربية، في بداية القرن الماضي، كمصر والعراق، وغيرها من الدول، لكنها -هذه الدول- نهضت وتقدمت، وأصبحت يشار إليها بالبنان، في مجال التعليم والتقنية، وحتى في الصناعات المختلفة، الذي كان يحتكر من الكثير من الدول الغربية واليابان. بل أن التحرك النهضوي الذي قام به محمد علي في مصر، سبق حتى اليابان في ذلك الوقت!

والواقع أن صعود الحضارات، أو أسباب الانهيار أو التراجع للخلف، عما كانت عليه، مسألة طبيعية في الصعود والسقوط، أشار إليها العلامة ابن خلدون في المقدمة، وتبعه بعض المفكرين والفلاسفة الغربيين، كالمؤرخين الذين اهتموا بقضية نهوض الحضارات وسقوطها مثال: «أرنولد توينبي» و«فردريك هيغل». لكن هناك الكثير من المؤرخين، يرون أن الأمر يخضع إلى قدرة العقل على إصلاح الخلل ومحاولة الانطلاق، عندما تكون هناك مؤشرات لإخفاقات دافعة إلى التراجع والانكماش، من خلال إيجاد المخارج والطرق لتفادي الانهيار التي قد تصيب الحضارات، أو النظم السياسية، لتستعيد القدرة على مواجهة ظهور التقهقر الذي قد يصيب بنية الدول ومؤسساتها من خلال انهيار بيانها الذي بدأ قويًا، ثم انهار هذا البناء لأسباب طبيعية أو بسبب الحروب أو التوترات أو المشكلات.

وأبرز مثال في قضية الانهيار ثم السقوط، ما حصل للاتحاد السوفييتي كدولة عظمى، وقوة ندية للولايات المتحدة والمعسكر الرأسمالي بعد الحرب العالمية الأولى، ثم سقوط كل المعسكر الاشتراكي في شرق أوروبا، كما عشناها نحن كجيل متابع في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، وتفاجأ العالم كله، من هذا السقوط، أو الزلزال، كما يصفه البعض، الذي تلاشى في لحظة كانت ضربة للكثير من الدول التي كانت مع المعسكر اليساري، ضمن الحرب الباردة بين الشرق والغرب، وكان السؤال الملح الذي دارت حوله النقاشات والحوارات والمؤتمرات: لماذا هذا السقوط ؟ وما هي أسبابه الكامنة ؟

والحقيقة أن التقييم لسقوط المعسكر الاشتراكي، اختلف حوله وتعددت التحليلات لأسبابه، فالبعض اعتبر أن سباق التسلح، بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، هو الذي أدى إلى هذا الانهيار، وبعض الآخر، يرى أن كارل ماركس نفسه لم يتوقع أن تطبيق فلسفته الاشتراكية ستحدث في روسيا الاتحادية؛ لأنها دولة زراعية، لكن توقعاته أن يكون تطبيقها في الدول الصناعية الرأسمالية المهمة كألمانيا -بلده- وبريطانيا، لتكون حاضنة للفلسفة لفلسفة ماركس وليس روسيا المتخلفة صناعًا، ولذلك قام لينين بتعديل النظرية الماركسية، وسماها النظرية الماركسية/‏‏اللينينية، ومن هنا يرى بعض المحللين أن روسيا لم تكن الدولة التي استطاعت أن تتأقلم مع هذه النظرية الماركسية، وهذه سبب السقوط.

لكنني أرى أن سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر كله في أهم أسبابه، ليس بسبب سباق التسلح بين الدولتين العظميين، أمريكا والاتحاد السوفييتي، بل إن المسألة أراها في النظام الشمولي نفسه، وغياب الحرية والديمقراطية، الغائبة في هذا النظام، وبقية المعسكر الاشتراكي، وأسهمت في هذا السقوط إلى جانب عدم وجود مساحة للنقد والتعدد السياسي، وهذه جميعها أدت في تخلل النظام السوفييتي، في حجم هذه الدولة الكبيرة، لكن الرأسمالية مع أنها بدأت متوحشة وغياب العدالة للعمال وغيرها من السلبيات، لكن وجود الحريات والتعددية السياسية، ووجود حرية الصحافة، ساهمت في تعديل النظام الرأسمالي، وتراجعه في الكثير من السياسات غير المنصفة، وحصلت الكثير من التعديل الكبيرة في هذا النظام، مع أن الأحزاب الاشتراكية انتشرت في الغرب الرأسمالي، وأصبح لها شعبية واسعة في ستينات القرن الماضي، وهذا ما جعل الرأسمالية تتجدد وتعدل إلى جانب للطبقات المتوسطة، حتى أصبح العامل في الغرب الليبرالي، أفضل من زميله في الدول الاشتراكية، من حيث المرتبات، ومن المظلة الاجتماعية الكبيرة، وهذا نجحت فيه الرأسمالية، وتفادت الانهيار والضغط الشعبي، بعكس الدول الاشتراكية.

وفي وطننا العربي لا شك أن هناك أسبابًا عديدةً للتراجع النهضوي، والتقدم المنشود قبل وبعد الاستقلال الدول العربية، وقد بدأ محمد علي في بداية حكمه بحركة إصلاحية جادة، سبقت حتى اليابان في القرن التاسع عشر، لكنها لم تحقق الأهداف النهضوية المطلوبة، ولذلك لتحرك الغرب في إعاقة هذه الحركة الإصلاحية، باعتبارها امتدادًا للدولة العثمانية، وهي التي كانت في فترة تراجعها، وبداية نهوض أوروبا وتقدمها، ولذلك سعت لوقف هذا التقدم، لوجود هذا الصراع السياسي والعسكري بين بعض الدول الغربية والعثمانيين، وكان الوطن العربي في هذه الفترة يعيش في عصور الانحطاط والتخلف، منذ سقوط بغداد في القرن الثالث عشر الميلادي، بدأ الانحسار وتوقف النشاط الفكري والعلمي، وأصبح الحراك الفكري والفلسفي والتفكير الديني جامدًا، خاصة بعد بروز التقليد، وتوقف الاجتهاد والتجديد في المستجدات والتطورات التي هي السنن البشرية الأزمة للتجدد الفكري والديني، مما أسهم في سبات الأمة العربية والإسلامية وتخلفها تدريجيًا، حتى فاقت الأمة على خيول نابليون، تدق أبواب القاهرة وبعض المدن العربية.

من هذه المنطلقات حصل التراجع والتقهقر، منها أن دولة الخلافة في إسطنبول، دخلت في حروب وتوغلت في أوروبا الشرقية، بعد احتلال العديد من هذه الدول، مما أثار دول أوروبا الغربية الأخرى، فاستجمعت قواها لوقف المد الإسلامي، باعتبارها تمثل الخلافة الإسلامية، مما جعلها تبتعد عن بناء نفسها صناعيًا ومدنيًا، وأسهم هذا في ضعفها، مما أغرى دول أوروبا باحتلال الكثير من مناطق شاسعة من البلاد العربية، التي كانت تابعة للخلافة العثمانية، وفعلا مع أواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر، بدأت فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، باحتلال مصر والجزائر وتونس ولبيبا، وفي القرن التاسع عشر استكمل المحتلون أقطار الشام والعراق وأجزاء من الجزيرة العربية، ولم تستطع الدولة العثمانية أن تقاوم هذا الاجتياح للبلاد العربية، وهي نفسها تركيا سقطت بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، مع محور ألمانيا، وأسهم هذا الاحتلال في زيادة التخلف والتراجع، ليكمل الواقع المتردي من عدة قرون!

لكن الأمة العربية لم تستكن لهذا الاحتلال، فتحركت لمقاومته، في أغلب هذه الدول، لكن القدرات والإمكانيات في البدايات كانت ضعيفة، لكنها استمرت وكلما ضعفت المقاومة، واختفت فترة من الزمن، تظهر قوة أخرى للمقاومة أكثر عزمًا وإرادةً لطرد الاحتلال، وفي النهاية تحققت الأهداف في خروج المحتل مرغمًا، تاركًا وراءه إرثًا سلبيًا متعددًا، خاصة ممن تغرب فكريًا، وأصبح يقلد الاحتلال، ويعتبره نموذجًا في كل التصرفات الإيجابية والسلبية، وكأنه جزء من هذا المستعمر، وهذا مما تركه الاستعمار في الكثير من المؤسسات الفكرية والثقافية، وقد أشار إلى ذلك المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري في كتابه (المشروع النهضوي العربي.. مراجعة نقدية)، إن التوسع الاستعماري الذي جاء للشرق، لم يرس التقدم كما قال عنه، بل إنه أتى لإجهاض مشروع النهضة الذي فكّر فيه، محمد علي في مصر وأتى بـ: «التخريب الذي مس بل أجهض وأعاق مفعول بعدها الآخر، التنويري التحديثي، وذلك إلى درجة يصح معها القول إن تعثر النهضة العربية، أعني ما أصاب التحديث والحداثة من انتكاسات في الوطن العربي، يرجع في الأساس، لا إلى مقاومة داخلية من القوى المحافظة في المجتمع العربي، بل إلى الدور التخريبي الذي قام به الوجه الآخر للحداثة الأوروبية».

ولذلك أسهم الاستعمار في تخريب النهضة وعرقلها، والإتيان بنزعات وأفكار مناقضة للهوية الوطنية، بهدف تكريس عقلية الاستتباع للغرب، وهذا ما حصل بعدما استقلت بعص الدول العربية، ويفترض أن تستمد نهضتها من ذاتها، فقامت باستيراد منتجات الغرب، بدلًا من أخذ المنهج واستبعاد الفكر والثقافة منه، ولذلك فقدت الأمة رؤيتها الخاصة للنهضة، وتابعت النموذج المتعلق بثقافة الغرب، وتم إقصاء الحاضن الفكري للميراث الوطني المقّوم المهم للنهوض والتقدم.