أفكار وآراء

الـوجـــه الآخر للذكاء الاصطناعيّ

25 أغسطس 2020
25 أغسطس 2020

محمود رشدي - باحث من مصر -

هل اصطحبك خيالك ذات مرّة إلى المستقبل لترى كيف تسير حياتك؟ هل تخيّلت يوما أن يكون مدير في العمل أو عمدة الحيّ الذي تقطنه روبوتا، أي «إنسانا آليّا؟». في ما مضى ظلّت تلك الأفكار حبيسة الخيال والفانتازيا، أمّا الآن فنعيش في عالم متسارِع. باتت التكنولوجيا وتطبيقاتها المتقدّمة من الذكاء الاصطناعيّ ركنا أصيلا في إدارة حياتنا، بل وتفوّقت على بني البشر في المهامّ التشغيليّة والروتينيّة، وتنافس الإنسان في المهامّ الأخرى المعتمدة على الذكاء والتفكير العقليّ، بما تفضّل به الإنسان على غيره من المخلوقات، ما جعله يسود الكون، ومن ثمّ فلا نستبعد تماما أن نستيقظ ذات يوم لنرى أنفسنا جزءا من عالم تحكمه الروبوتات!

لك أن تتخيّل أنّ السيّارات ذاتيّة القيادة تفوّقت على نظيراتها الأخرى- المعتمدة على القيادة البشريّة - في معدّلات الأمان والسلامة، وعلى الجانب الآخر من العالم في مدينة سيدني في أستراليا، حيث يتمّ تشغيل ميناء «بوتاني» بالكامل من خلال آلات ذكيّة في شحن الحاويات العملاقة وتفريغها. على المنوال نفسه، في منطقة خالية من البشر، يستخدم هذا النظام في المناجم التي شرعت بالاعتماد على الأجهزة الذاتيّة، إذ تقوم تلك الآلات بنقل الموادّ الخامّ إلى شاحنات، وهي بدورها توصلها إلى قطارات الشحن في الموانئ من دون تدخّل العامل البشري!

لا شكّ أنّ العالم مقبل على ثورة استثنائيّة في قطاع التكنولوجيا والاتّصالات، ترتكز على تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتتوسّع في المجالات كافّة، بحيث لا يستثنى منها أيّ مجال، فباتت تتدخّل في القطاعات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة، ما دفع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في إحدى زياراته لمؤسّسة تعليميّة مختصّة بالبرمجة الإلكترونيّة عن الذكاء الاصطناعي والسيادة التكنولوجيّة، إلى القول: «إنّ من يمتلك الذكاء الاصطناعي سيحكم العالم».

يعرّف الذكاء الاصطناعي، في أبسط تعريفاته، بأنّه برامج حاسوبيّة ترتكز على خوارزميّات معيّنة، قادرة على جمْع المعلومات وتحليلها، واتّخاذ قرارات بطريقة تحاكي التفكير البشري. وهناك أنواع منه تعتمد على تخزين المعلومات المستقبِلة، وإخراجها بصورة تحليليّة، ما يسمح باتّخاذ قرارات مستقلّة وصحيحة، كما هو الحال مع السيّارات ذاتيّة القيادة، ناهيك بنوع آخر من الذكاء، لا يزال تحت الاختبار، يحوي برامج تحاكي العقل البشري من إدراك الإحساس والتفاعل مع التصرّفات الإنسانيّة، بما يمكِّن من التنبّؤ بمشاعر الآخرين.

مظاهر تغلغل منظومات الذكاء الاصطناعيّ: تعدّدت مظاهر تغلغل أجهزة الذكاء الاصطناعي في حياتنا بشكل مطّرد خلال العقد الأخير، وشرعت المجالات كافّة في تحويل أنشطتها وخدماتها عبر الفضاء الإلكتروني والآلات الحديثة، إذ أصبحنا نتحدّث عن تحوّل المجالات الحياتيّة لنوع جديد منها يسمّى بـ«الرقمنة»، حيث ثمّة الآن: الحرب الرقميّة، الطبّ الرقمي، الاقتصاد الرقمي، وكذلك علم الاجتماع الرقمي المتّصل بشيوع وسائل التواصل الإلكترونيّة في حياتنا بشكل كبير. نختار من تلك الأبعاد بعدين لهما ارتدادات خطيرة وهما: البعد الأمني والبعد الاجتماعي.

البعد الأمنيّ: اتّسعت منظومات الذكاء الاصطناعي وإفرازات ثورات التكنولوجيا لتشمل القطاعات الأمنيّة والعسكريّة، فظهرت مفاهيم جديدة غيّرت من النمط التقليدي للحرب والمعدّات العسكريّة، فضلا عن تغيّر ميدان الحرب ليتحوّل إلى فضاء رقميّ يتصارع فيه المتحاربون بأجهزة إلكترونيّة، ومن ثمّ تغيّر مسمّى الحرب، ليصبح الحرب الرقميّة أو الحرب السيبرانيّة.

ظهر مفهوم الحرب الرقميّة السيبرانيّة بشكل واضح في الشرق الأوسط على وجه التحديد عبر استخدام الطائرات من دون طيّار أو الطائرات المسيّرة «الدرونز»، إذ تمّ إنشاؤها لأغراض بحثيّة، ولكنْ سرعان ما تحوّل استخدامها لأغراض عسكريّة بدأت بالمهامّ التجسسيّة، وانتهت بمهامّ هجوميّة بعد استخدامها لتدمير أهداف معيّنة.

لم تقتصر الحروب الرقميّة على «الدرونز»، وإنّما شملت حروبا سيبرانيّة، تستهدف في المقام الأوّل تعطيل قواعد بيانات جهات معيّنة بغرض إيقافها عن العمل لفترات محدّدة، وأشهر هذه الحروب، إطلاق فيروس «Ransomware» الذي اجتاح العالم في عام 2017، موقِعا أكثر من 200 ألف ضحيّة، وهو يصيب الأجهزة العاملة بنظام «ويندوز».

البعد الاجتماعيّ: إذ أردت أن تعرف حجم الدّور الذي تلعبه تطبيقات التكنولوجيا في حياتنا، فانظر إلى الشارع وراقب المارّة، أو تأمّل الجالسين في المحلّات ومحطّات المترو، حيث سترى أشخاصا مختلفين يفعلون الشيء ذاته وهو التحديق في هواتفهم، مع تحريك حواسّهم تعبيرا عن حالتهم المزاجيّة. ولتتعمّق أكثر في الموضوع، تذكّر إحدى المرّات التي فقدت فيها أنت أو أحد أصدقائك هاتفك، وكيف وقع ذلك الألم عليك، ليشبه الألم نفسه الذي يصيب الفرد عند فقدان أحد الأشخاص العزيزين على قلبه.

بالطبع، تغيّرت ديناميكيّة الحياة الاجتماعيّة بتغلغل وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، انستجرام، وغيره) في حياتنا، وارتبطت مفاهيم التشارك المجتمعي والترابط الأسري بأدوات التواصل الجديد (اللّايك، الشير)، بل واعتمد مقياس العلاقة بين الأصدقاء على معدّل التجاوب مع ما ينشره الآخر.

تزداد الأمور تعقيدا على تعقيد مع تلك الحالة التي نصل بها إلى التعلّق بهواتفنا إلى حدّ الإدمان، وفي هذه الأثناء، نتساءل عن عدد المرّات التي تتفحّص بها هاتفك يوميّا، وكم مرّة اطّلعت على حسابك على الفيسبوك أو تويتر أو إنستجرام. لا شكّ أنّ الإجابات ستصدمك، ولاسيّما عندما تراقِب نفسك وتكتشف أنّك تقضي أكثر من ساعتين يوميّا على الهاتف الذكي، وأنّك تتفحّصه نحو 90 مرّة، على الأقلّ.

وفي تطوّر مستمرّ في إدخال برمجيّات الذكاء الاصطناعي إلى وسائل التواصل، بات لدينا صديق رقمي عوضا عن أصدقائنا من البشر، نستطيع التحدّث إليه في أيّ وقت. ولعلّك شاهدت فيلم «Her» من بطولة جواكين فينكس، وكيف تعلّق بمحبوبته الإلكترونيّة، بعدما اشتراها من متجر للأجهزة الإلكترونيّة، وبات يتحدّث إليها ليل نهار؛ فهل يبدو لك الأمر أكثر غرابة عندما تعرف أنّ هناك العديد من البرامج الشبيهة التي انتشرت بشكل كبير بين فئات الشباب وغيره من البرامج التي تتحدّث بها إلى روبوت؟

الأمر لا يحتاج إلى دراسات أكاديميّة كي نثبت نسبة التحوّل الاجتماعي لمجتمع رقميّ، استبدل حواسّه ومشاعره وتفاعله الاجتماعي بأدوات رقميّة تعتمد على ضغطة على جهازك تترجِم بها إحساسك، وتكتب منشورا بديلا عن جلسات أصدقائك وأسرتك، منتظرا كمّا من التفاعل، يتحوّل معها يومك، إمّا إلى نشوة، في حالة حيازتك عددا لا بأس به من المعجبين، أو إلى صدمة سلبيّة في حال لم يحصل ذلك.

ارتدادات الذكاء الاصطناعيّ: في الأعوام الأخيرة، تزايد الحديث عن انعكاسات تقدّم الذكاء الاصطناعي على حياة البشريّة، وتراوحت الآراء بين من يرى أنّ الذكاء الاصطناعي سيؤول إلى إسعاد البشريّة، وبين من يرى العكس. جماعة الاتّجاه الأوّل ترى أنّ تقدّم الذكاء الاصطناعي سيخدم الإنسان في العديد من المجالات الحياتيّة، وتبنّى هذا الرأي مارك زوكربيرج مؤسِّس فيسبوك. أمّا أصحاب الرأي المعاكِس، فذهبوا إلى أنّ من شأن هذا التطوّر أن يفضي إلى فناء البشريّة ودمار بني البشر. وقد عبّر العالِم الفيزيائيّ الشهير «ستيفن كوينج» عن مخاوفه من تطوّر الذكاء الاصطناعي واحتمال إحلاله محلّ البشر، كما لم يستبعد أن يؤدّي استمرار التقدّم إلى شكل جديد من الحياة.

ينشر المقال بالتنسيق مع مؤسسة الفكر العربي