أفكار وآراء

العودة إلى المستقبل

10 أغسطس 2020
10 أغسطس 2020

بيتر آدامسون - ترجمة - بدر بن خميس الظفري -

يعود بنا الكاتب بيتر أدامسون إلى فكرة التكرار المتواصل للأحداث.

في هذه الأيام التي تنتشر فيها الأمراض والاضطرابات السياسية، من الطبيعي أن نتساءل حول المستقبل، وما إذا كان الماضي كما نعرفه جميعا قد ذهب بلا رجعة، وفي مثل هذه اللحظة فإن الفكرة القائلة إنّ المستقبل هو الماضي، وإن الماضي هو المستقبل تبدو مطمئنة، فهذه الأحداث جميعها قد وقعت من قبل، وهي تتكرر الآن، وقد تكررت عددا لا نهائي من المرات، وكل واحد منا قد عاش حياتنا هذه من قبل، وسيعيشها مرة أخرى: «لن يكون هناك شيء جديد فيها، فكل ألم شعرت به، وفرحة استبشرت بها، وفكرة مرت عليك، وتنهيدة تنهدتها، وكل شيء صغيرا كان أم كبيرا شهدته في حياتك سيعود إليك بنفس الترتيب والتعاقب».

لقد كتب هذه الكلمات- على الأقل مرة واحدة إن لم يكن عددا نهائيا من المرات - أشهر المناصرين لعقيدة «التكرار الأبدي» فريدريك نيتشه (1844-1900) في كتابه «ذا جاي سايِنس»، وقد اختلف العلماء ما إذا كان نيتشه جادا في فكرته واعتبرها نظرية كونية، حيث لم يقدم حجة عليها إذا ما تركنا جانبا إيمانه بنظرية «الحتمية»، إلا أنّ نظرية «الحتمية» تقدم فقط فكرة وجود مستقبل يصنعه الماضي بلا اختيار منا، وليس تكرارا غير منتهٍ من الماضي والمستقبل. إذن، فبالرغم من أن نيتشه وصف هذه النظرية بأنها «أكثر النظريات علمية من بين النظريات المحتملة»، إلا أنه تحدث عن الجانب النفسي لها أكثر من الجانب الكوني.

ولم يكن نيتشه هو أول من تأمل في هذه الفكرة المثيرة كما ذكر ذلك بنفسه، بل سبقه الرواقيون القدماء الذين تأثروا بالفيلسوف هيراقليطس ( 535-475 ق.م) ، معتقدين بوجود قوة إلهية تتحكم في الكون الذي يحمل صفات نارية، وأن العالم لم يكن في يوم ما سوى «كتلة نارية» مع وجود إله ناري يقبع بعظمته في مكان حار ومنعزل، ثم تقلص هذا الإله ليصبح الكون الذي نراه الآن أجزاء نقية من تلك النار الإلهية، وفي نهاية الزمان، سيتحول الكون مرة أخرى إلى إله، وسيصبح العالم في نهايته نارا وليس جليدا، وبعد ذلك، ستتكرر الأحداث كما وقعت بالضبط بنفس التسلسل مرارا وتكرارا.

أما عن السبب الذي يجب أن تقع فيه الأحداث بالتسلسل فلأن الرواقيين كانوا معتقدين بنظرية الحتمية وأن نقاط البداية المتشابهة تقود دائما إلى النهايات نفسها، وعلاوة على ذلك فإن الإله عند الرواقيين يحف بعنايته هذا الكون ويضمن سير العالم بأفضل طريقة ممكنة حتى لو كنا غير قادرين في كثير من الأحيان على معرفة الحكمة من هذا المسار.

وبدون علم الرواقيين، كان هناك فلاسفة ينتمون لثقافة قديمة معاصرة لهم يؤمنون بالأفكار نفسها، ففي الهند نشأت النظريات المتعلقة بالفلك والتنجيم بناء على الافتراض القائل بأن مواقع النجوم تشير إلى أحداث تقع في الأرض، وإذا أعطيت تلك النجوم الوقت الكافي، فستعود إلى مواقعها وإلى النسق الذي كانت عليه، وهذا يعني وقوع الأحداث نفسها مرة أخرى.

وهذا كما هو معلوم لن يقع بين عشية وضحاها، فقد قام علماء فلك هندوس بحساب مدة دورة حياة العالم ـ وهي تشكل يوما واحدا في حياة الإله براهما- ووجدوا أنها تساوي 4,32 مليار سنة بحيث إنه في نهاية كل يوم ينفجر العالم، ففي هذه النظرية يعد الزمن بحد ذاته عامل هدم، فبدلا من نظرية الرواقيين القاضية بوجود دورة حياة متكررة لا نهائية، يعيش براهما دورة حياة طبيعية، تتكون من آلاف من الأيام الطويلة.

في هذا النوع من النظريات الكونية ، يبدو أن اهتمامات البشر تقتصر على الأشياء التافهة، ولكن نظرية التكرار الأبدي عند نيتشه كانت تهدف إلى العكس. إذن، ما هو الموقف الذي كان نيتشه يظن أننا سنتخذه إذا آمنا بأن حياتنا هذه تتكرر بلا توقف؟ قد يلجأ البعض إلى قضاء وقت أقصر في مشاهدة نيتفليكس.

يطرح نيتشه نتائج أكثر إثارة من هذه، ففي العبارة التي اقتبستها من كتابه «ذَا جاي سايِنس»، يقول إن التأمل في نظرية التكرار الأبدي ينبغي «أن تغيرك إلى ما أنت عليه أو ربما تسحقك»، فهو يرى أن نظريته تجبرنا على التساؤل ما إذا كنا نتقبل حياتنا كما عشناها من قبل ونتقبلها بشكل أبدي، وإذا فعلنا ذلك، فلن يكون السبب أن حياتنا تحتوي فقط على الأشياء الجميلة مثل الملذات والمناسبات السعيدة التي نود أن نستمتع بها دوما. لقد اكتوى نيتشه بنفسه بالمرض والمعاناة طيلة حياته، ولكنه كان طموحا وقال للحياة «أهلا» بناء على نظرته إليها بأنها تجربة أبدية متكررة، ومع أن صديقه لو سالومي علّق على نظريته قائلا: «إنها تعني شيئا مروعا»، إلا أن نيتشه رأى أنه يمكن التعاطي معها على أنها سعادة لا حدود لها.

وهذا هو بالفعل الموقف الذي تبناه نبيُّ نيتشه الخيالي (زرادشت) الذي وصفه نيتشه بأنه «معلم التكرار الأبدي»، حيث يتقبل بسرور وغبطة العالم بجميع أجزائه التي لا معنى لها، ويعيش في حيوات متكررة لا نهائية لا تنفصل عن تاريخ ليس له هيكل سردي أو هدف واضح. إن عقيدة زرادشت المتعلقة بالتكرار الأبدي في هذا السياق تخالف تماما الفكرة المسيحية للتاريخ التي تدور حول السقوط والفداء، فبدون بداية أو نهاية، لا يقدم العالم عند نيتشه أي شيء سوى وجوده المحض مع وجود المعاناة مختلطة في وسط الملذات. وكما كتب نيتشه في روايته (هكذا تحدث زرادشت): «هل سبق وأن قلت أهلا للحظة من السعادة؟ نعم يا أصدقائي، إذن فقد قلتم أيضا أهلا للمحن والمصائب»، وتحمل هذه الفكرة تحديا أكبر من رواية الرواقيين البسيطة حول الإله الذي يحف بعنايته الكون ولكنها -أي الفكرة- أكثر تفاؤلا.

*بيتر آدامسون هو مؤلف كتاب

«أهيستوري أوف فيلوسوفي ويذأوت إني غابس».