أفكار وآراء

أبعد من سياسات ترامب: مسارات الصراع الأمريكي - الصيني

10 أغسطس 2020
10 أغسطس 2020

د.صلاح أبونار -

الأمر المؤكد أن الحرب الاقتصادية التي أطلقها الرئيس ترامب ضد الصين لن تشهد نهايتها لو أخفق في انتخابات الإعادة. إذ تحظى سياساته الصينية بالدعم القوي لخصومه الديمقراطيين والمؤسسات الأمريكية الأمنية، ولكن الأهم أن جذورها تمتد إلى ما هو أبعد من خلل الميزان التجاري وحقوق الملكية الفكرية وغيرها من المشاكل، لنجدها في سياق الصراع الأمريكي من أجل الاحتفاظ بموقع القوة المسيطرة على النظام العالمي.

شرعت واشنطن في تطوير علاقاتها الاقتصادية مع الصين عبر سياق شكلته تفاعلات ثلاثة اتجاهات. سنجد الاتجاه الأول في التصالح الأمريكي - الصيني الذي انطلق في يوليو 1971 بزيارة كيسينجر لبكين، التي تلاها في أكتوبر من العام نفسه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بالاعتراف بالصين الشعبية وحصولها على مقعد الصين الدائم في مجلس الأمن، وأعقبت ذلك زيارة نيكسون لبكين 1972 وإقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما في 1979. وفي هذا السياق انفتح الطريق أمام قيام تحالف ثنائي استهدف محاصرة الاتحاد السوفييتي، أعلنه الرئيس الصيني في واشنطن: «نتحمل معا واجبًا مشتركًا هو العمل متحدين من أجل كبح جماح الدب القطبي».

وسنجد الثاني في سياسات الإصلاح الاقتصادي التي انتهجتها الصين في أعقاب وفاة ماو تسي تونج 1976، والتي استهدفت تفكيك ملكية الدولة وتبني عناصر من اقتصاد السوق في إطار سيطرة الدولة على العملية الإنتاجية والانفتاح على السوق العالمي. ستبدأ التحولات مترددة في الثمانينات التي عرفت تدفقات للاستثمارات الأجنبية في حدود 2.2 بليون دولار فقط فيما بين 84- 1989، وفى عام 1986 تقدم بكين بطلب الانضمام لاتفاقية التجارة والتعاريف الجمركية - الجات. وفي التسعينات أطلق دينج عملية إعادة هيكلة داخلية وتسريعا للعولمة واندماجا في النظام الاقتصادي العالمي، وفي إطارها تدفقت الاستثمارات الخارجية حتى وصلت إلى 30 بليون دولار.

وننتهي بالاتجاه الثالث ويتعلق برؤية واشنطن السياسية للصين. كان العالم في مطلع التسعينات يبدو مطواعا للإرادة الأمريكية. فالستار الحديدي انهار وأخذت دول شرق أوروبا في التسابق للالتحاق بالغرب، والخصم الروسي العقائدي والنووي تفكك وبات يستجدي المعونة الأمريكية، وقبل ذلك لقت اغلب راديكاليات العالم الثالث هزيمتها وانزوت في انتظار عطف واشنطن. وفي هذا السياق اتجهت واشنطن صوب الصين مسلحة بعدة مفاهيم ساهمت في تشكيل توجهاتها. منها «إجماع واشنطن» الذي ولد عبر توافق الإدارة الأمريكية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حول السياسات التي ينبغي على دول الجنوب اتباعها، التي ليست سوى تكرار لوصفة الليبرالية الجديدة، أي حرية الأسواق وتقليص تدخل الدولة الاقتصادي ودورها الاجتماعي. ومنها نظرية فوكوياما حول «نهاية التاريخ» التي تحولت لفترة إلى عقيدة سياسية رسمية، وتبشر بوصول البحث البشري عن عقيدة سياسية لنهايته، مع ما تخيلته من انتصار نهائي للقيم والنظم الليبرالية. ومنها القناعة التي استمدتها واشنطن من خبراتها السوفييتية، وتفيد أن الحزب الشيوعي الصيني ما إن يشرع في مسيرة التحديث الاقتصادي والإصلاح السياسي المؤسسي، حتى يحل به ما حل بقرينه السوفييتي ويأخذ في الانهيار لتنفتح أبواب الصين بلا قيود، وهي قناعة دعمتها نظريات للتحول الديمقراطي طرحت تلازم الإصلاحين الاقتصادي والديمقراطي. وهكذا انطلقت واشنطن متخيلة قدرتها على توجيه المسيرة الصينية.

ولكن الدوافع التي حركت واشنطن لم تنحصر في الاتجاهات الثلاثة السابقة. كانت هناك أيضًا الإغراءات الاقتصادية الصينية. سوق استهلاكي ارتفع سكانه فيما بين 1980 -2020 من مليار إلى 1.334 مليار، وقوة عمل ماهرة ورخيصة ومجردة من الحقوق النقابية، وموقع استراتيجي في سلاسل القيمة العالمية الآسيوية جعلها تحتل الحلقة النهائية فيه، وخطوط نقل سهلة وسريعة عبر المحيط الباسفيكي، وسلطة دولة قوية قادرة على فرض النظام والتخطيط انطلقت في بناء متواصل وسريع للبنى الأساسية.

وعلى امتداد العقد الأخير من القرن الماضي والأول من الجديد، لن تجد واشنطن مشاكل كبرى في التطور الاقتصادي المكثف لعلاقاتها الصينية. فيما بين عامي 1986 - 2019 ازداد حجم صادرات بضائعها للصين من 3.106 مليار دولار إلى91.011 مليار، مقابل ارتفاع حجم وارداتها من 4.771 مليار إلى 345. 204 مليار. وارتفعت استثماراتها المباشرة من 11.14 مليار دولار عام 2000 إلى 116.52 مليار عام 2018. ولم تبدأ أجراس الإنذار في الرنين إلا أوائل العقد الثاني. استيقظ الأمريكيون من نشوة انتصار الحرب الباردة ليجدوا أمامهم صينا أخرى غير صين الثمانينات والتسعينات. بلد ضخم المساحة والسكان تقدم ليصبح ثاني اقتصاديات العالم، ومرشح للمرتبة الأولى خلال العقدين القادمين. وبلد أثبتت حكومته رغم تسلطتها كفاءة وعقلانية إدارية، ولا يُظهر مجتمعه علامات صدوع عميقة تهدد بانفجارات، ولا تبشر تطوراته السياسية بتطورات ليبرالية تضارع ليبراليته الاقتصادية. وبلد تصر حكومته على نمط إدارة اقتصادية يمزج بين حرية الأسواق والملكية والدور التنظيمي للدولة في المجال الاقتصادي، ولا تبدو قابلة للالتزام الحرفي بنمط دور الدولة الذي تسعى المؤسسات الأمريكية والدولية لفرضه عليها. وبلد وصلت فيه نسبة البحث العلمي من الدخل القومي إلى 2% عام 2016، بعد أن كانت 0.6% فقط عام 1996، أي أقل بنسبة 0.74 % من أمريكا. وبلد تمكن من تطوير فروع صناعية متقدمة تقنيا وتماثل قرينتها الأمريكية، ورغم كونه لا يزال متخلفًا عن أمريكا في قطاعات متعددة، يعيش حالة اليابان في السبعينات التي تخطتها سريعا. وبلد شرع في تحديث عميق لقواته العسكرية، وتمكن من بناء قوة بحرية متطورة رافقتها تطلعات توسعية في بحر الصين الجنوبي. وبلد اطلق مشروعا ضخما للتوسع الاقتصادي: «مبادرة الحزام والطريق»، بنى في إطارها شبكة طرق برية ضخمة وخط سكك حديدية يمتد من غرب الصين إلى غرب أوروبا عبر أوراسيا، وقام ببناء أو تشغيل 42 ميناء في 34 دولة يرتبط بالكثير منها بمناطق حرة.

ومن الطبيعي أن تشعر أي دولة تقف على رأس النظام العالمي وتسيطر على مفاتيح القوة فيه، بالقلق تجاه صعود قوة أخرى تزاحمها على القمة، وتعمل على مقاومة صعودها. ولتحقيق ذلك يمكن أن تستخدم أساليب متباينة تختلف من حالة لأخرى، منها مثلا حرمانها من موارد القوة وتشكيل التحالفات السياسية المناهضة وتفكيكها من الداخل. ويمكننا أن نرصد في تاريخ السياسات الأمريكية في الحرب الباردة بعض تلك الأساليب. فلقد خططت لإحاطة الاتحاد السوفييتي بشبكة تحالفات عسكرية، وعملت على جره لسباق تسلح استنزف موارده، وجهدت لتفكيك تحالفاته في شرق أوروبا والعالم الثالث، وفرضت عليه حصارا تكنولوجيا لمنع تقدمه.

ويمكننا اعتبار الحرب الأمريكية ضد الصين استئنافا لتلك الحرب الباردة، ووقتها سنجد في الاتهامات الموجهة إلى سياسات الصين الاقتصادية قدرًا من الحق، لكنها في جوهرها مزيجا من الذرائع لتصعيد الصراع وتبريره والوسائل لإضعاف موقف الصين الاقتصادي ومنعها من التقدم صوب مركز القوة الاقتصادية الأولى، ومعها بالضرورة مركز القوة السياسية الأولى. ولتحقيق ذلك تسعى لحصر دورها التجاري، وتقليل تدفق الاستثمارات الأجنبية عليها، ومحاصرة تقدمها التكنولوجي عبر حصر تدفق التكنولوجيا الحديثة إليها وقدوم الطلاب الصينيين لأمريكا، والأهم تفكيك نمط نموها الاقتصادي عبر تقييد دور الدولة، ودفعها إلى سياق إقليمي عدائي، وجرها إلى سباق تسلح يستنزف مواردها.

هل ستتواصل الحرب الباردة الجديدة بفرض خسارة للرئاسة؟

وما هي حظوظها من النجاح؟

ستتواصل لأنها تحظى بدعم الديمقراطيين والمؤسسات الأمنية ونخب أخرى، ولكن عبر إيقاعات وسياسات تتناسب مع سياقاتها الداخلية الجديدة.

والأمر المرجح أنها ستتمكن من إبطاء تقدم الصين وإلحاق الكثير من الأذى بها على المدى القصير، ولكنها ستفشل على المدى المتوسط في الحفاظ على إيقاع تقدم قوى يسمح لها بتحقيق كل أهدافها. لماذا؟ كانت الحرب الباردة القديمة مؤطرة أيديولوجيا عبر تناقض الديمقراطية والشمولية، بما اكسبها شرعية عقائدية وقدرة على التواصل الزمني والحشد السياسي. وتفتقد الحرب الجديدة هذا المستوى من التأطير الأيديولوجي، وتكتفي بمفاهيم شعبوية واستثارة الغرائز الاقتصادية. وكانت الحرب القديمة قادرة على كسب الإجماع السياسي. فلم تكن هناك فئات أمريكية تربطها مصالح بروسيا، والآن تتداخل مصالح فئات أمريكية واسعة مع الصين من أول المستهلكين مرورًا بشركاء الصين التجاريين وانتهاء بالشركات المستثمرة فيها. وكانت أوروبا في ظل حلفي وارسو والأطلنطي والتوازن النووي ترى موسكو خطرًا يجعلها تقف صفًا واحدًا خلف واشنطن، واليوم ترى في الصين مزيجًا من شريك اقتصادي استراتيجي وخصم اقتصادي يمكن ترويضه. وكانت واشنطن تجد في موسكو خصمًا قادرًا على التوسع السياسي عاجزًا عن التوسع الاقتصادي، واليوم تجد أمامها خصمًا صينيًا ممتنعًا عن التوسع السياسي وقادرًا على توسع اقتصادي متصل ويقوم على المنفعة المتبادلة، مما يجعل محاصرته أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلا.

تكونت أسس السيطرة الأمريكية خلال النصف الأول من القرن الماضي لتنطلق وتبنى مؤسساتها خلال نصفه الثاني. والأرجح أننا لن نشهد نهايتها إلا بعد منتصف القرن الجديد، لكننا سنشهد مقدمات تلك النهاية خلال العقود الثلاثة القادمة. وفيها ستستقر أسس التعددية القطبية، وستفقد أمريكا الكثير من قوتها وتتقدم الصين إلى مواقع قريبة منها. وهذا هو بالضبط ما تقوم به الحرب الباردة الجديدة.