المنوعات

آيا صوفيا .. بناء تتحارب عليه الأفكار

04 يوليو 2020
04 يوليو 2020

بيثان مكيرنان

ترجمة: أحمد شافعي

على مدار تسعمئة سنة أخذ خلفاء الملسمين وسلاطينهم على عاتقهم أن يحققوا نبوءة النبي محمد [عليه الصلاة والسلام] بأن فاتحا عظيما سوف يضم ذات يوم مدينة القسطنطينية المقدسة إلى أحضان الإسلام.

في عام 1453 نجح السلطان العثماني محمد الثاني أخيرا في النفاذ عبر أسوار بيزنطة، وما كاد يفعل ذلك حتى شق طريقه إلى أكبر الكاتدرائيات في العالم المسيحي. وفيما كانت شمس الغروب تنثر الذهب على فسيفساء العذراء مريم وعبق البخور يتصاعد إلى قبة المبنى الهائلة، خرَّ السلطان على ركبتيه يصلي.

كان قرار الفاتح الشاب بتحويل المبنى ـ المعروف في اليونانية بهاجيا صوفيا [أي الحكمة المقدسة] والمعروف بالتركية بآيا صوفيا ـ إلى مسجد إمبراطوري هو بمثابة فعل رمزي بليغ، وكذلك أيضا كانت الخطوة التي اتخذها منذ قرابة مئة سنة مؤسس الجمهورية التركية العلماني مصطفى كمال أتاتورك بتحويل دار العبادة إلى متحف. وإلى اليوم، لم يزل مبنى آيا صوفيا في قلب معركة أيديولوجية شرسة.

فتحويل ذلك الكنز المعماري المهيب في اسطنبول إلى مسجد مرة أخرى كان منذ عقود ولم يزل قضية عزيزة على قلوب القوميين والإسلاميين الأتراك. ولقد عورض ذلك بحماسة مماثلة من اليونان ومن الليبراليين الأتراك الذين يرون في هذه الخطوة نيلا من تاريخ الأقلية التركية المسيحية ومحوا لطبيعة الجمهورية العلمانية.

وعلى الرغم من تعاطف الرئيس رجب طيب إردوجان مع الفكرة فقد بقي هو نفسه بعيدا عن الجدل العام حتى العام الماضي. غير أنه منذ ذلك الحين أعرب بملء فيه عن دعمه لهذه الخطوة، وذلك جزئيا للإلهاء عن إخفاقات سياسية ولتعزيز دعمه المتراجع لدى القاعدة الانتخابية المحافظة داخل حزب العدالة والتنمية التابع له.

في الثاني من يوليو، سوف يصدر مجلس الدولة التركي قرارا نهائيا في قضية قانونية تخص وضع آيا صوفيا. ومن المرجح أن يصدر الحكم لصالح الاسترجاع الكامل لتراثه الإسلامي.

وبرغم أن الرئيس التركي قائم بالحكم منذ ثمانية عشر عاما فإن هذه الخطوة سوف تكون أجرأ رسالة للمستهينين بالداخل والخارج، وفحوى الرسالة هو أن البلد قد انصرف انصرافا حاسما عن تحالفاته مع الغرب سعيا إلى مصير عثماني جديد أكثر عظمة.

في الشهر الماضي، عندما سئل خلال مقابلة تليفزيونية عن رأيه في الغضب اليوناني على القرار المحتمل، استعمل إردوجان عدته البلاغية المعهودة، وطرح المسألة في إطار السيادة الوطنية.

وتساءل: "أيتجاسرون فيطلبون منا ألا نحول آيا صوفيا إلى مسجد؟ أأنتم تحكمون تركيا أم نحن؟"

سبق أن أقيمت دعاوى قضائية لتغيير وضع المتحف وفشلت، لكن ثمة سوابق قانونية جديدة تشي بأن الحكم سوف يصدر لصالح إردوجان.

في 2019، قضت المحكمة نفسها بإلغاء الوضع المتحفي لتشورا وهي كنيسة بيزنطية أخرى في إسطنبول تحولت مثل آيا صوفيا إلى مسجد ثم إلى متحف. كما تحول مبنيان لهما تاريخان مشابهان في إزنيك وترابزون إلى مسجدين عاملين سنة 2011 و2013 على الترتيب.

والشواهد كثيرة على أن مبنى آيا صوفيا هو التالي: ففي السنوات الماضية استعمل المبنى في تلاوات لآيات الجهاد القرآنية قبل عمليات تركيا على الحدود مع سوريا. وفي ظل حكم حكومة حزب العدالة والتنمية، أخذ الاحتفال بيوم فتح اسطنبول ـ أي ذكرى انتصار محمد الثاني على البيزنطيين ـ يزداد إتقانا من عام إلى عام، مصحوبا بتلاوات قرآنية من آيا صوفيا تهدر بها مكبرات الصوت في المدينة.

تقول سينيم آدار زميلة مركز الدراسات التركية التطبيقية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية إن "تحويل آيا صوفيا إلى مسجد ليس مسألة تعبئة شعبية وحسب. ففي ظل إثارة خطاب حربي حول ضرورة حماية السيادة الوطنية، ينبغي التفكير أيضا في سياق تصاعد التوتر مع اليونان في شرق المتوسط".

وتضيف قائلة إن "الحكم الإيجابي سوف يقوي أيضا التصور القائم فعليا في أوربا بأن تركيا تتصرف تصرفات أحادية الجانب ولا تخضع للأعراف والمؤسسات الدولية".

في العام الماضي توترت العلاقات بين تركيا واليونان مرة أخرى بسبب مصير قبرص المقسمة، وتدفقات اللاجئين، وحقوق التنقيب عن الغاز والنفط المتنازع عليها في البحر المتوسط.

في هذا الأسبوع ناشدت وزارة الثقافة اليونانية اليونسكو بشأن قرار تركيا المنتظر، زاعمة أن تحويل طبيعة آياصوفيا ينطوي على خرق لمعاهدة وقعتها أنقرة بشأن طبيعة المبنى الدولية. غير أن استياء اليونان هو على وجه التحديد ما يسعى هذا الحكم إلى إثارته.

برغم أن الحكم المتعلق بمستقبل آياصوفيا لم يصدر بعد، فقد أصدر إردوجان بالفعل تعليماته إلى مجلسه الاستشاري لوضع خطط إقامة أولى الصلوات في المبنى في الخامس عشر من يوليو، الذي يشهد الذكرى الرابعة للانقلاب الفاشل عليه.

وفي الوقت الذي تزداد فيه تركيا جرأة على الصعيد الدولي، وأبرز دلائل ذلك تحويلها مسار الحرب في ليبيا، فإن احتمال تلاوة آيات الجهاد في آياصوفيا بعد استرداده مجده الإسلامي لا يخلو من دلالة بشأن ما يرجوه إردوجان من مستقبل لبلده، ومن تركة لاسمه.

كانت آخر مرة تحدث فيها الرئيس من ذلك المبنى في التاسع والعشرين من مايو الذي شهد ذكرى انتصار محمد الثاني المعروف في التركية بالسلطان الفاتح. ويومها قال إردوجان "سنترك تركيا تليق بسلفنا الفاتح".

عن صحيفة جارديان البريطانية في 30 يونيو 2020