أفكار وآراء

كورونا والفضاء المهجور !

24 يونيو 2020
24 يونيو 2020

محمد جميل أحمد -

في العادة، يتصور الإنسان حراكا موازيا لحركته على الأرض ويظل ذلك التصور جزءا من تصوره للعالم الذي يعيش فيه. ففيما نحن نعيش على الأرض ثمة حراك نتصوره في الفضاء لحركة الطيران التي تنقل البشر ومنقولاتهم بين أطراف العالم.

إحساسنا بذلك الحراك هو إحساس تصور يظل عالقاً بالذهن لكنه، في الوقت ذاته، يكون متمما لتصور حياتنا كبشر. بأن هناك جزءا من عالمنا الإنساني يطير في الأجواء! مع كورونا، والقطيعة التي أحدثها مع حياة سابقة عليه للبشر، من ناحية، ومع بدايات عودة حياة مجزوءة وحذرة إلى ملامح لتلك الحياة السابقة، من ناحية ثانية، سيكون تصورنا للفضاء المهجور من فوقنا تصورا ناقصا، ويظل إحساسنا به اليوم، رغم غيابه كحراك، تماما كالعضو المبتور للإنسان (ذراعه مثلاً) لكنه يحس بطيفها وكما لو أنها لا زالت موجودة. وإذ يعكس هذا الوضع حالة غير مسبوقة من تصور الإنسان المعاصر لحياته في كل تقلباتها، إلا أنه يعد في إحدى المفارقات التي أحدثها فيروس كورونا في حياة البشر، تدبيراً آخر قد يصب في مصلحة الإنسان من حيث لا يدري.

فما كشفته صور الأقمار الصناعية من انحسار التلوث على الغلاف الجوي لكوكبنا مع سكون محركات الطاقة في حياة البشر، وما رواه الكثيرون من صفاء البحار والأنهار، هو في شكل من الأشكال، تعبير عن مصلحة للإنسان لكن قد تقع بطريق غير مباشر، أو بطريق يكون في ظاهره ضد مصلحة الإنسان، لكن عند النظر والتأمل سيبدو العكس.

لم يكن يتصور أحدنا في يوم من الأيام أن تخلو أجواء العالم من حركة الطيران، وإن بدت له بطبيعة الحال، حالة تصورية أكثر منها حالة محسوسة.

وهنا سنجد ذلك البعد الماورائي في تأملات جائحة كورونا، ذلك أن القدرة على إيقاف حركة طيران جميع البشر وطائراتهم مرة واحدة، ولشهور عديدة، هو فعل لا يمكن أن يقدم عليه البشر إلا حين يقع على حياتهم حدث هائل لا طاقة لهم به إلا وفق الشروط التي يفرضها عليهم ذلك الحدث للتكيف معه.

وبين قدرتنا على عدم تصور ذلك الفضاء المنقوص في وعينا (وهو حدث يحدث لأول مرة) وبين المنافع الكامنة وراء ذلك الحدث الكبير الذي أجبر البشر اضطرارا على تسكين حركة الملاحة الجوية، سندرك أننا حتى الآن فيما نتلمس العودة إلى حياة شبه عادية، سيظل تصورنا لحركة الفضاء من فوقنا جزءًا من حياتنا التي نستأنف عاديتها بعد ثلاثة أشهر من المكوث الاضطراري داخل المنازل.

بكل تأكيد ثمة شيء هائل تغير في البشر وفي الطبيعة والفضاء، فصورة ذلك العجوز الإيطالي من مدينة البندقية (فينسيا) وهو على قاربه ينظر مندهشاً لصفاء مياه البحر الأدرياتيكي، (بحسب قناة فرانس 24) بعد أن قضى عمراً لم يراها على ذلك النحو، فيما إيطاليا تودع محنتها القاسية مع كورونا، كانت أكثر تعبيراً عن الفرح بشيء جديد لم يكن يتوقع حدوثه من قبل.

ربما لا يمكن أن يتنبأ أحد بالأحوال التي ستكون عليها أيام العالم المقبلة، في ظل غياب لقاح فعال ودواء فعال لهذا الوباء الكوني، حتى الآن، لكن بالتأكيد أن فكرة تغيَّر العالم من حيث كونه عناصر متوازنة توازناً دقيقاً سواء لمصلحة التنوع الحيوي أو لجهة التغير المناخي، وارتباط ذلك التغير بطبيعة حياتنا ارتباطاً عضوياً؛ سيكون مجالاً للتفكير فيما وراء هذا العالم المادي.

سيطير البشر عبر طائراتهم من جديد، وسيملأون ذلك الفضاء مرةً أخرى وهم أكثر دهشة وفرحاً باستعادته، ولكن من في الأرض أيضاً سيشعرون بذلك الشعور، أي بالامتلاء في حياتهم على الأرض تحت فضاء تعمره الطائرات فتشعرهم بأن علاقتهم التواصلية مع العالم ما زالت متصورة.

إن عالم اليوم؛ إذ بات بفعل كورونا فاقداً لتلك الحركة التواصلية التي أصبحت أهم خصائصه العولمية، فإنها ستذكره، من ناحية أخرى، بإعادة التفكير في الهوية المكانية للدوله من حيث حدودها المادية المتصلة عبر الأرض، فجائحة كورونا حين جعلت الممكن مستحيلاً في عاديات حياتنا لم تردنا إلى ما كنا نفكر فيه، بل إلى ما لم نكن نفكر فيه ولم يخطر ببالنا أصلاً، ولم نكن نحسب أنه سيصادفنا في يوم ما من أيام المستقبل.

بين فضاء غير معمور، وعودة ما لطبيعية العالم؛ هل يتغير الإنسان؟