المنوعات

مارية والربع من الدائرة ..تستنطق واقع المجتمع الخليجي المعاصر

20 يونيو 2020
20 يونيو 2020

د. عزة القصابي

عرف الكاتب القصصي حسن البطران من خلال إصداراته في مجال القصة القصيرة جداً، والمقال الصحفي، والخاطرة الإبداعية، وهو من أوائل الذين تبنوا مشروع القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية، حيث كتب وأصدر عشر مجموعات قصصية، منها: (نزف من تحت الرمال 2010 ، بعد منتصف الليل 2011م ، ماء البحر لا يخلو من ملح 2012، همسات من خاطري 2007م. أزهار .. لون أحمر فوق غصن رمان 2013م ، ناهدات ديسمبر2014م ، ماء البحر لا يخلو من ملح 2014 اللجوء في الوطن 2015م.

ومؤخرا أصدر حسن البطران قصصا قصيرة بعنوان (مارية وربع من الدائرة) عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع، 2020م .

واحتوت المجموعة القصصية الأخيرة (مارية وربع من الدائرة) على عشرة أحزمة قصصية، وفي كل حزام أربع قصص أخرى. كتبت بلغة مكثفة، وجمل قصيرة جاءت أقرب إلى الرمز والإيحاء، بدءا من العنوان "مارية" الدال على الأنثى والذي حصره الكاتب في ربع الدائرة، أما ثلاثة أرباع مساحة الدائرة، فقد خصصها الكاتب لمناقشة قضايا المجتمع المعاصر. وسوف نسبر في الأسطر التالية مضامين بعض القصص في هذه المجموعة، ونستقرئ أحداثها وشخصيتها في إطار أسلوب الكتابة "القصصية القصيرة جدا":

كورونا في حياة الناس: يحسب للبطران تعرضه في حزمته القصصية (مارية والربع من الدائرة) لموضوع كورونا المستجد الذي ينتشر في العالم بسرعة النار في الهشيم! والذي لا يزال لغزا محيرا، وهذا يجعل البعض يتساءل، هل كورونا واقع أم وهم؟!.

فمثلا في الحزمة الرابعة، وردت قصة بعنوان: "يختبط في مشيته"، تتحدث عن تأثر المجتمع بالفكر الجمعي وغياب الوعي لدى البعض أثناء جائحة كورونا: "يصيب العمى سبعة غربان". ويسترسل الكاتب واصفا حال بطله أنه يرضخ لتفكير القطيع الجمعي: "يكتفي هو بشرب علاج السعال ويرفض تناول خافض الحرارة"، ورغم أنه لازم المنزل يرفض مغادرته "رغم إعلان السلطات إطلاق سراح من غادر القطيع".

وتصف قصة (لعبة الغميمة) من الحزمة الثامنة، حال الناس في ظل الحجر المنزلي. من خلال قصة رجل وأسرته، يظهر منزويا وخائفا لا يعلم مصيره. وفي النهاية يصاب مع أسرته بالفيروس: "تسلل إلى وكره الآخر خوفا من كحة قد يصاب بها، صحا من نومه وعاد إلى وكره الأول. بعد ثلاثة أيام، كحة وحمى وصداع حاد لصغار قطته الثانية، ظل هو في عزلته الانفرادية أربعة عشر يوما". ووظف الكاتب مفهوم لعبة "الغميمة"، التي تحمل دلالة على جهل البعض بقواعد العزل الصحي، وهناك من لا يكترث بالتقيد بالسلامة ويظل يمارس لعبة (الغميمة )!

ويتقارب موضوع قصة (مشهد) من الحزمة العاشرة مع مضمون قصة (الغميمة) السابقة، لكونه يجسد مشهد الفزع الأكبر الذي يعيشه العالم بسبب جائحة كورونا، وفي المقابل هناك من لا يكترث به! فجاء السرد القصصي أقرب إلى مشهد سينمائي يرصد أحوال الناس تحت رحمة كورونا: "مختزلا صورا مختلفة في ذلك اليوم، الذي تأثرت البشرية به: غسيل لم يكتمل، فيلم أجنبي على وشك نهايته، مساجد مغلقة، حفل زواج جاره من جنسية عربية تأجل، أخبار كورونا تتصدر نشرات الأخبار في كل الفضائيات العالمية.

وفي قصة "عقار أخضر" من الحزمة العاشرة، رصد الكاتب ظاهرة الهجرة العكسية من المدن إلى القرى والأرياف والأقاليم بعد انتشار كورونا، بسبب خوف الناس من الاختلاط والازدحام وانتقال العدوى. لنستمع لصوت الكاتب واصفا ذلك: "ظلَّ مختفيا في القرية. أعفى عنه ولم تغزوه (كورنا) فتحت المساجد فك"

البحث عن العدالة والمساواة: يشكل البحث عن العدالة في هذه البسيطة هاجسا إنسانيا منذ بدء الخليقة حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وفي أحزمة "مارية والربع من الدائرة" شكل هذا الموضوع هاجسا لدى الكاتب حسن البطران، ونود الإشارة إلى مواطنها في نسيج قصصه وأحداثه المكثفة.

تضمنت قصة "شاطئ في كفة ميزان" في الحزمة الثانية كلمات تؤكد مفهوم العدالة، مثل: "الوزن، رجحت كفة الأول" وهي مفردات مفتاحية ساقها الكاتب ليشخص تدني معيار العدالة في الحياة، لذلك لا غرو أن نجد المجتمع يقف بجانب الغني، ويحارب الفقير: "اجتمع الناس وتم الوزن وسطهم، رجحت كفة الأول، رفض الآخر أن يزوج أمه لفقير القرية". وأكدت قصة "أيام ملونة" المثل الذي يقول: الأيام دول يوم لك ويوم عليك، وقام الكاتب باختزالها في إطار قصة قصيرة جدا لا تتجاوز السطر: "مد إليه رغيف الخبز ذات صباح، رآه جالسا بجانب الحائط بثياب رثة، رفضه توالت السنون ومد إليه خطاب الاعتذار عن الوزارة".

واستكملت قصة "ورقة دقيقة وشفافة" من الحزمة السابعة، مسلسل الفساد المتفشي في بيئة العمل، والتجاوزات التي يقوم بها بعض المسؤولين لتحقيق مصالحهم الخاصة: "استأذن من رئيسه لظرف طارئ، بعد أقل من ساعتين، الموظف ورئيسه يتنافسان على كرسي في بار في احد فنادق الدول المجاورة".

-جدلية العلاقة بين الرجل والمرأة: في الحزمة السادسة سرد الكاتب في قصة "كله ظلمة" حكاية رجل وامرأة متزوجان، ولكنهما يعشقان الحرية: "يطير بعيدا عن غابات النخيل، يريد أن يغرد هناك في الفضاء"، وبالمثل وصف حال الزوجة قائلا: "حينما سمعت أنثاه حلقت هي الأخرى بعيدا في الاتجاه المعاكس". إلا أنه كان لهذه الحرية ثمنا باهظا، تمثل في شتات الأسرة، والذي اختزله البطران في نصه: "غراب طائش استحوذ على العش وفراخه".

وردت قصة أخرى في نفس الحزمة السابقة، بعنوان" بعيدا بتجاه الصلاة" سرد الكاتب فيها حكاية فتاة رفضت الزواج من رجل يتقاطع معها فكريا ودينيا "يركض بعيدا في الاتجاه المعاكس للباب الذي أغلق في وجهه". واستكمل الحدث القصصي مساره: "حينما فرضت عليه الصلاة أراد أن تكون ركعاته الأولى تحت قدميها. رفضها له وهو في المهد ليس له أي مبرر"، افترض الكاتب أنه كان على الفتاة أن توافق على الارتباط بذلك الرجل، ربما الله يصلح حاله. ووجه الكاتب في الحزمة الرابعة في قصته بعنوان "نداء قريب" أصبع الاتهام نحو "المرأة" لأنها سمحت لنفسها بأن تكون مجرد جسد أنثوي يثير الفتنة: "ترمي نفسها من علوّ شاهق، تطلب من ينقذها؟! تلبس الثوب في مكان ضيق، يبتعد عنها أقربهم إليها".

تستكمل قصة "ستة عصافير ناقص واحد" في الحزمة التاسعة. استمرارية الحياة الزوجية التي يسودها الاستقرار والسعادة لسنوات عديدة: "سمعت صوته الهادئ، تحرك نبضها ذو الخمسين وصلته خيوط نبضها، ارتجف، قفص صغير حبسهما وتكاثرت الصيصان حولهما".

وبشكل عام، اتسم أسلوب الكتابة لدى حسن البطران بالالتزام بتكنيك "القصة القصيرة جدا" التي عرفها الأدب الغربي، قبل أن تستقر في محراب الإبداع العربي. واستغلها الكاتب العربي كوعاء حاوٍ لقضاياه المعاصرة مع التزامه بالقالب الشكلي، الذي يتصف "بتجرد الحدث السردي من الزيادات والإسهاب والالتزام بأقل كلمات ومعاني ممكنة".

حاولنا في هذه القراءة الوصفية لبعض القصص المختارة من مجموعة (مارية والربع من الدائرة)، تتبع الحدث السردي لعدد من الموضوعات الإنسانية التي ساهمت في بناء الحدث والشخصيات.

وناقش الكاتب في قصصه قضايا مختلفة؛ بعضها لامس العلاقة بين الرجل والمرأة في ضوء المستجدات الراهنة في المجتمعات الخليجية، كما تحدثت قصص أخرى عن قضية "ضياع العدالة" في العديد من مساقات الحياة الاجتماعية والاقتصادية. ختاما لامس الكاتب البطران، وباء كورونا المستجد... راصدا من خلاله ردود أفعال الناس، وحالة الحيرة التي يعيشونها في العصر الراهن، حيث منهم من يعتبر كورونا وباء قاتل، وآخرين لا يكترثون به!