أفكار وآراء

«فلويد»: لحظة انتصار الضمير

17 يونيو 2020
17 يونيو 2020

محمد جميل أحمد -

الحراك التلقائي الذي انعكس في التفاعل البشري الكبير مع قضية مقتل الأمريكي الأسمر جورج فلويد، سواء عبر الولايات المتحدة أو العالم الحر، عكس استدراكاً مضمراً لصحوة الضمير البشري حيال أوضاع ورموز كان قد حان وقت انفجارها لإدانة ذاكرة بيضاء للشرطة الأمريكية بدت كما لو أن لحظة الانفجار ضدها عبر ذلك الخزين المكبوت لحظة فارقة واستثنائية.

ثمة قناعة ناقصة في الولايات المتحدة عبرت باستمرار عن قابلية للتماهي مع حياة السود ضمن علاقات فردية مسنودة بوعي نظري ما لمفهوم المساواة المتصل بروح الأزمنة الحديثة وحيثيات حقوق الإنسان، والتشريعات الصارمة. لكن بقيت بقايا لذاكرة بيضاء كانت تضمر باستمرار فوقيةً مضمرة ضد السود؛ فوقية بدت مع المكبوت الشعبوي الذي عبر عنه الرئيس الأمريكي ترامب من خلال خطاب نوايا وتغريدات؛ أكثر تلقائية وسهولة، كما لو أنه قد أعاد حيوية ضمرت في نفوس كثيرين من البيض عبر تعبيراته ولامبالاته فرفعت عنهم الحرج الذي كان يضطر معه بعض البيض إلى ضرب من نفاق اجتماعي، خصوصاً في أوساط الشرطة التي شهدت سجلاتها تاريخاً مخزياً من استخدام هامش مرن لممارسة سلوكيات ميز عنصري ضد السود باسم القانون!

وإذا كانت صحوة شعب الولايات المتحدة وردود فعله الأخلاقية، بدت اليوم تحت شعار (حياة السود مهمة) ضرباً من اعتراف كامل ومتأخر لإحساس تاريخي بفداحة أن يؤسس المجتمع ذاته المتوهمة لقرون طويلة عبر استضعافه لذات أخرى لا يريد أن يشعر بها كجزء منه لمجرد اختلاف اللون، فإن هذا الشعب إذ يقوم اليوم بالمطالبة لاستعادة الاعتراف الكامل وبتحقيقه على كافة المستويات، وبخاصة في مراكز الشرطة؛ يقوم أيضاً بمقاومة نوع غير مسبوق لقيادة أمريكية بدت اليوم عبر تغريدات الرئيس ترامب ومجازفاته كما لو أنها قيادة مغايرة لتطلعات ذلك الشعب الحر في قدرته الكبيرة على تجديد وعيه الإنساني باستمرار في لحظات تاريخية فارقة.

بين خطابين؛ خطاب لرئيس لقيت تعليقاته استهجاناً واسعاً في الكثير من المناسبات، وكشفت تعبيراته تلك طبيعة الشعبوية التي تتكشف اليوم في ردود فعله كما لم تتكشف من قبل، وبين خطاب عام أصبح اليوم تياراً واسعاً في أوساط الشعب الأمريكي ليواجه خطاب ترامب في المقابل؛ جاءت لحظة مقتل «فلويد» لتكون بمثابة الصحوة المناسبة لمواجهة سلوك شعبوي استمر لسنوات أربع، بما جعله كافياً لكشف هشاشته وخطورته في الوقت ذاته على مستقبل أمة حية كالأمة الأمريكية.

تجدد الاحتجاجات وانتظامها واستمرارها الدوري ومطالبها المحددة، وردود فعلها على العالم الحر، خارج الولايات المتحدة، مذكرةً ذلك العالم باستحقاقات ماض كولونيالي عبر رموز وتماثيل، شهدنا تحطيمها في شوارع العديد من المدن الأوروبية؛ كل تلك الأفعال تشهد بأن لحظة «فلويد» لم تكن سوى اللحظة التي كانت بمثابة إشعال عود الثقاب على مواد حريق قابل للاشتعال السريع.

إن التسوية الأخلاقية والقانونية لحياة السود المهمة وخصوصاً في الولايات المتحدة ستشهد فصولاً أخرى أكثر إثارة في المستقبل القريب من خلال التذكير المُلّح بخسارات لحقت بالتاريخ الاجتماعي للسود في أمريكا؛ خسارات لا يمكن تعويضها وجبرها أبداً إلا عبر تسوية تاريخية لبعض استحقاقاتها المادية الممكنة في الحاضر.

طرح الكثير من الكتاب والباحثين في الولايات المتحدة تصورات نظرية ممكنة للحلول التي قد تضمن تسوية أخلاقية وقانونية بطرق مبدعة وخلاقة قد تعوض جزءًا من حياة تاريخية كان إهدار إنسانيتها سقطة في جبين التاريخ الأمريكي.

فحين ترتبط بنية الوعي النمطي بنموذج تأسيسي كرس لأوضاع تاريخية وإنسانية مختلة، ستعاني الذاكرة البيضاء من طبيعة ذلك الوعي الذي يتحول بقوة الواقع التاريخي إلى تمثيلات لاشعورية في ممارسات سلطة نظامية كالشرطة، مثلاً، ليكون ذلك كافياً لممارسات تستبطن عبر التلذذ ما تسقطه السلطة الرمزية للذاكرة البيضاء وتعتبره استمراراً لهيمنة النموذج الاجتماعي للبيض.

وفي تقديرنا، أن قوة الحراك الأمريكي والعالمي المنبعث من استفزاز لحظة فلويد سيتعين عليه، ليس فقط تغيير أقسام من الشرطة الأمريكية والحد من سلطاتها، بل كذلك تدمير الأنا الفوقية للنموذج الرمزي القابع في تلافيف ذاكرة بيضاء لا تزال إسقاطاتها التاريخية تتمثل هويات ما قبل حداثية في بلد كالولايات المتحدة، وتستعيد بعض ممارسات تلك الذاكرة في أقسام الشرطة ضد مواطنين سود!

إن القوة الهائلة للرصيد الأخلاقي: (انتصار الضمير على العنصرية) في لحظة فلويد من شأنها أن تعمل على إحداث قطيعة مع تلك الفوقية الكامنة لبقايا ذاكرة بيضاء، وأن ترسل للمجتمعات الأخرى (لاسيما مجتمعاتنا العربية) إشارات إنسانية عميقة لمعنى أن يكون الفرد حرا وأن لا يكون المجتمع رهينا للنموذج الذي تفرضه الذاكرة.